سيكولوجيّة العلاقة بين لبنان وفلسطين.. الأصل والأصيل

الساعة 2525 أكتوبر 2022آخر تحديث :
لبنان وفلسطين

احتضن الشعب اللبناني القضيّة الفلسطينية بكل ما حملتّه من مظلومية، ومن معانٍ أخرى. لم يكن ذلك التبني بدوافع سياسيّة أو إيديولوجية فقط. ثمة خفايا لهذه العلاقة قد يراها الإختصاصي النفسي بمنظار آخر، فيقارب فيها التحليل النفسي ـ السياسي.

ليست فلسطين مسجدًا أقصى وكنائس ومآذن وأرضًا محتلة أو مجرد وطن مسلوب وشعب مضطهد ومهجر وعدالة مفقودة وجرح إنساني وسماوي.. وحسب. هي كل هذا وأكثر إنها حلم والأحلام طاقة لا تُروضها الغفلة ولها أن تحقق ولو في العشيّة

* * * *

بقلم: سلوى الحاج

كنت أسأل نفسي، منذ أيام المراهقة، عن سر اهتمامي بهذه القضيّة، وكنت أجيب بالشكل الافتراضي والعفويّ، بأن “تأثري بفلسطين متأتٍّ من البيئة والمحيط، وخاصة ما تناولته وسائل الإعلام عن هذه القضية على مدار سنين الاحتلال”، وأعود واستطرد بجواب آخر، “هناك قضايا أخرى قد أثيرت ولم نتوقف عندها كما الحال مع القضية الفلسطينية”.. فلماذا إذًا؟.

نحن عايشنا القضية، في بلد شهد عذابات الشعب الفلسطيني، واحتضن اللاجئين منذ ما يزيد عن ستين عامًا. صحيح أنه لم يكن يفصلنا عن تلك الأرض سوى شجر الزعرور وأجباب البلان وأحراج الصنوبر، وكنا نتشارك قطاف التين والزيتون واللوز ودوالي العنب، إلا أنه لا بد من أسباب أخرى لهذه العلاقة السيكولوجية بين هذين الشعبين.

يُحدّثنا أجدادنا كيف كانت فلسطين مصدرًا للرزق، وكيف كانت رحلة العبور منها وإليها توقًا للعمل، وأنه لم يكن بالأمر الشاق آنذاك، ولا تحتاج تلك الرحلات اليومية إلى أوراق ثبوتية كي نعبر طلبًا للرزق، وكل ما كان يحتاجه المُريد ثياباً مصرورة بقطعة قماش بيضاء كانت تسمى “بقجة” يحملها على ظهره، وقليل من الزاد من مياه وطعام يستعين به عند الحاجة في رحلته سيراً على الأقدام إلى تلك الأرض الرّحبة.

قد يفوتنا الكثير من القصص والحكايا بحكم أعمارنا، لكن الأرض حكت وتحكي لنا عن عرق جبين من عبروا تلك المساحات والساحات. أليس للساقي حق على النبات؟ قصَّ لي جدي مرة كيف كان يعمل بأرض فلسطين، وكيف كان يعبر من الوطن إلى الوطن ليجمع العائد من العمل ويشتري به قطعة أرض في جنوب لبنان، وهكذا تكاثر المُلك عنده بعد أن كان يفترش الحُصر. إذًا، القضية أعمق وأبعد من بؤرة سياسية استراتيجية أو حتى عقائدية أو إيديولوجية.

تراثنا المشترك مليء بالحكايات، وغني بذاكرة جمعية على طول خطوط الحدود والمعابر والقرى والبلدات واصطفاف المشاعر والحكايات المشتركة بحكم الجوار. مأكولات عدة مطهية توارثناها قيل لنا إنها فلسطينية، والباحث عن الأصل يدرك الأصيل. وعباءة خيطت بقطن من حقولنا.. وهل للثياب العابرة والممزقة أن تقاوم عباءة المرأة الفلسطينية؟ أما حكاية “الكوفيّة”، ذلك الوشاح الأبيض والأسود، الرمز الأشهر لفلسطين فقد تجاوز مدلولها الزي الشعبي إلى رمز نهضوي مجبول بالإرادة والعزيمة. رمزية إستعارتها بعض الشعوب في حراكها لأجل الحرية، وأزاحت بمدلولاتها أكذوبة مشعل الحرية الذي “رمّزت” به أميركا، وجدلية العبودية والحريات وحقوق الإنسان والمساواة.

لقد حدثنا غوستاف لوبون في كتابه “روح الثورات”، عن تأثير “العرق النفسيّ”، ويقصد به مجموعة من الجماهير عاشت معًا لفترة طويلة من الزمن، خضعت خلالها لشروط وقوانين الحياة نفسها، ونحن لسنا بصدد الغوص كثيرًا في هذه النظرية المستوحاة من الثورة الفرنسيّة والثورات اللاتينية، إنما ما يعنينا، هو هذه العلاقة النفسية التي يحكمها قانون التجاور في ما بيننا.

وعليه، فإن الأبعاد النفسية للقضية الفلسطينية ليست بمحايدة، بل تطال أعماق الفرد، أي ما قبل مشهديات الهدر الإنساني الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني وما بعده؛ إذ من طبيعة الإنسان التمسك بكل ما هو محق؛ وفطرة الإنسان تميل لمناهضة كل ما هو خارج المألوف، أو الخارج عن الطبيعة والحق؛ فنحن نناهض في أعماقنا كل من خان وخذل وباع، ونرفض التوحش والعسكرة، ونجاور الالتزام ونناصره.

كما أن طاقات الإنسان الحيّة تُثير في النفس مشاعر ودوافع تلحّ على الإشباع، وهي طاقات غير تلك العضوية المعروفة لدينا، إنما هي طاقات لا شعورية كامنة – غريزية المنشأ، طاقات الإيمان؛ إذ تمتلك كما هو معروف هذه الطاقة الحيوية مُحددات تعيش في نطاقها حالة الاعتدال والتوازن، وإن أصابها خلل لا تلبث أن تتحول بمحركاتها إلى قوة ضاغطة لإعادة التوازن إلى سابق عهده، ما يُشعر الإنسان بلذة الانتصار والتفاخر والارتياح نتيجة الإشباع المحقق.

وهناك ايضاً العمليات العقلية المفسرة لكثير من أشكال النشاط الإنساني، وهي في تأهب مستمر. ومن هذه العوامل العقلية الداخلية المعروفة في علم النفس عوامل تسمى بالعوامل الدائمة مثل التهيؤ الذهني الدائم لاستشعار الألم أو الخطر، ولاستطلاع أنواع الإنتباه والإدراك الحسّي للمحيط، وهو ما يجعل الفرد في حالة تأهب لكل ما هو غير مألوف ومقاومته.

ختامًا، ليست فلسطين مسجدًا أقصى وكنائس ومآذن وأرضًا محتلة أو مجرد وطن مسلوب وشعب مضطهد ومهجر وعدالة مفقودة وجرح إنساني وسماوي.. وحسب. هي كل هذا وأكثر إنها حلم والأحلام طاقة لا تروضها الغفلة ولها أن تحقق ولو في العشيّة.

* سلوى الحاج كاتبة صحفية – لبنان

المصدر: 180 بوست

موضوعات تهمك:

شباب فلسطين يلتفون حول المقاومة

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة