أوروبا والعالم… الحديقة والغابة

محمود زين الدين30 أكتوبر 2022آخر تحديث :
أوروبا

مرّ خطاب بوريل العنصري المباشر، دون أن يثير ردود فعلٍ ترقى إلى خطورة معناه وخلفياته الثقافية!
لم يأت انفجار اليمين العنصري المتطرّف في أوروبا من فراغ، بل ولد وترعرع داخل مؤسسات التفكير السياسي الغربي.
ثقافة استعلاء متجذّرة بأوساط الغرب، ولم تتجاوزها التطورات بعد، رغم التقدّم الذي حصل نحو التخلص من التمييز، وعقدة التفوق على الشعوب الأخرى.
أوروبا مسؤولة عن ولادة النازية والفاشية ولم تقبل مسألة الاستقلال ومنح الشعوب حق تقرير مصيرها إلا بالقوة، بعد نهبها ومراكمة ثرواتٍ طائلة نقلت أوروبا إلى عصر جديد!
* * * *

بقلم: بشير البكر
يرى مفوّض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن “أوروبا حديقة وبقية العالم أدغال وغابات”، وذهب إلى أبعد في حديثه أمام الأكاديمية الملكية في بلجيكا منذ أسبوعين، عندما قال: “يمكن أن تغزو الغابات الحديقة”.
ومرّ هذا الخطاب العنصري المباشر، من دون أن يثير ردود فعلٍ ترقى إلى خطورة معناه وخلفياته الثقافية. ويبدو أن مردّ عدم الاكتراث هو أن السياسي الإسباني الذي يتولى ثالث أهم موقع في الاتحاد، بعد رئاستي الاتحاد والمفوضية، ليس الأول الذي يتفوّه بهذا الكلام المشين الذي يعد محرّضا على الكراهية بين أوروبا والشعوب الأخرى!
سيما تلك التي سبق لها أن ارتبطت بعلاقاتٍ تاريخيةٍ خاصة معها وتقارب جغرافي، وعرفت أشكالا مختلفة من الاستعمار الأوروبي، كما حال العالم العربي وبعض البلدان الأفريقية.
وأكثر ما يلفت الانتباه هنا أن بوريل ليس من تيار المحافظين الجدد الذين ينادون بأطروحات صراع الحضارات، بل هو من مدرسةٍ سياسيةٍ أخرى مختلفة كليا، وسيرته السياسية محطات داخل اليسار الإسباني، بدأها وزيرا للعمل في ثالث حكومة لرئيس الوزراء الاشتراكي، فيليبي غونثاليث، عام 1991.
أما على المستوى العائلي، فهو ابن خباز، ذاقت أسرته مرارة الهجرة بسبب الظروف الاقتصادية، فقد سبق أن هاجر جدّه من إقليم كتالونيا في إسبانيا إلى الأرجنتين بحثا عن لقمة الخبز.
ومن الواضح هنا أن المسألة لا تتعلق بالمدارس السياسية، بقدر ما تعبّر عن ثقافة استعلاء متجذّرة في بعض الأوساط الغربية، ولم تتجاوزها التطورات بعد، رغم التقدّم الذي حصل بعد الحرب العالمية الثانية على مستوى التخلص من التمييز، وعقدة التفوق على الشعوب الأخرى.
تشكل هجمات 11 سبتمبر (2001) في الولايات المتحدة محطّة أساسية، على طريق إيقاظ (وتصعيد) العصبيات المرضية التي ترسخت خلال فترات الاستعمار، وهي خليط من تمييز وتعصّب وعنصرية وانغلاق واعتناق لفكرة المركز والهوامش.
وصدق بوريل حين قال إن استعارة عبارتي “الحديقة” و”الغابة” ليست من اختراعه، بل إن هذا المفهوم حاضر في النقاشات الأكاديمية والسياسية منذ عقود، وهنا تكمن مشكلة بعض الساسة الأوروبيين الذين لم يعتنقوا مفاهيم التقارب والمساواة بين الشعوب ومبادئهما، ولا يزالون يدورون في الحلقة المفرغة القديمة، رافضين أن يدركوا أن العالم تجاوز أوروبا.
وبالتالي، ليست هي من تحدّد المرجعيات، وتحرّك العالم الحديث ثقافياً واقتصادياً، ولم تعد لها السيادة والريادة على بقية أرجاء المسكونة، بل شاخت، وفقدت مكانة الحديقة التي تمارس الاستعلاء الثقافي، وغادرت موقع من يعطي الدروس، أو يمارس الفوقية على الآخرين.
لم يأت انفجار اليمين العنصري المتطرّف في أوروبا من فراغ، بل ولد وترعرع داخل مؤسسات التفكير السياسي الغربي الذي عجز عن ابتكار وسائل وأساليب لقيادة أوروبا المسؤولة عن ولادة الأيديولوجيتين، النازية والفاشية، والتي لم تقبل طواعيةً مسألة الاستقلال ومنح الشعوب حق تقرير مصيرها إلا بالقوة، بعد أن نهبت هذه البلدان، وراكمت ثرواتٍ طائلة ساهمت بحدوث الثورة التي نقلت أوروبا إلى عصر جديد.
ومثال ذلك الحكومة الإيطالية الجديدة التي تعتبر مرجعها الفكري الحركة الاجتماعية التي أسّسها موسوليني، بل المسألة أعقد من ذلك.
ويعبّر عن أحد مظاهرها الرفض الذي يصدر عن حكوماتٍ مثل فرنسا لمراجعة تاريخ الاستعمار والاعتراف بأن هذه الحديقة صدّرت ذات يوم الجرائم ضد شعوب البلدان الأخرى، ومثال ذلك الجزائر.
ومن أخطر الظواهر وصول اليمين العنصري المتطرف إلى الحكم في بعض بلدان أوروبا، لأنه يتبنّى نظريات وبرامج معادية للمهاجرين، وتعلي من أطروحات صراع الحضارات والأديان، الأمر الذي يهدّد بنزاعاتٍ تهدم ما تم من تقدّم وتفاهم ثقافي وإنساني وديني بين شعوب الشرق والغرب.

*بشير البكر كاتب صحفي وشاعر سوري

المصدر: العربي الجديد

موضوعات تهمك:

تشاووش أوغلو ينتقد التنمر الامريكي

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة