نحو تحول في النظام الإقليمي العربي

محمود زين الدين15 يناير 2023آخر تحديث :
النظام الإقليمي

حتى يومنا هذا لم تفلح الدولة القائد في النظام العربي الإقليمي في إقامة حلف تقوده لأغراض الدفاع عن النظام.
ظهر ضعف القطب الروسى ومعه تعمق الشك في استحقاقه الاحتفاظ في المستقبل بالمميزات المرافقة لمكانة القطب الدولى.
انكشفت الصعوبات التى تكتنف عملية صعود الصين حتى راح البعض يتساءل عن جواز سحب صفة الأسطورة التى رافقت هذا الصعود.
كشفت حرب أوكرانيا معاناة ودمار أذهلنا إلى حد جعل التفكير في مستقبل البشرية وبخاصة في الجزء الذى نسكنه يبدو كاللعب بالنار.
انحدار أمريكا مع عوامل أخرى وراء دفع أو استدراج أوكرانيا وروسيا ليتقاتلا في حرب هى الأولى في أوروبا بعد سبعة عقود من السلم.
اهتزت في كل أوروبا كما في العالم النامي صورة الديموقراطية الأمريكية كقوة ناعمة بامتياز نتيجة لاجتماع عناصر انحدار هيكلية وسلوكية.
انشغلنا بصراع الكبار والتحول المتوقع في توازنات القوة في النظام الدولي غافلين عن تطورات خطيرة تقع أو تتعمق في أحوال النظام الإقليمى العربى.
إسرائيل وأمريكا سينتهزان ضعف النظام العربي لتصعيد حملة غرس نفوذ إسرائيل بالدول العربية لتتقطع أواصر العلاقات العربية.. بعد قليل ينفرط النظام الإقليمى العربى.
تطورات لو استمرت أو تعمقت قد تؤدى لانفراط النظام الإقليمي العربي أو تآكله أو تحول بعض أجزائه وتغير خصائصه أو يزول تماما أو تذوب هويته وهياكله في نظام إقليمى آخر.
* * *
أعترف أننى واحد من عرب كثيرين اهتموا بمتابعة أحدث حروب الأوروبيين، أقصد الحرب الدائرة على الأراضى الأوكرانية، حتى شغلهم هذا الاهتمام عن متابعة تفاصيل الثورة الناشبة في هياكل وتفاعلات نظامنا الإقليمى العربى.
لنا بعض العذر فما كشفت عنه حرب أوكرانيا وما انكشف بعد طول معاناة وما تسببت فيه أذهلنا إلى حد جعل التفكير في مستقبل البشرية وبخاصة في الجزء الذى نسكنه يبدو كاللعب بالنار.
*
انكشف أمامنا ضعف القطب الروسى ومعه تعمق الشك في استحقاقه الاحتفاظ في المستقبل بالمميزات المرافقة لمكانة القطب الدولى. انكشفت أيضا الصعوبات التى تكتنف عملية صعود الصين حتى راح بعضنا يتساءل عن جواز سحب صفة الأسطورة التى رافقت هذا الصعود.
صرنا شهودا على دلائل تعزز القناعة بأن انحدار أمريكا يقف، مع عوامل أخرى، وراء دفع أو استدراج كل من أوكرانيا وروسيا ليتقاتلا في حرب هى الأولى في القارة الأوروبية بعد حوالى سبعة عقود من السلم.
ثم تتأكد الدلائل وتزداد عددا عندما نرى ألمانيا تنفض عن نفسها عباءة السلم وتعود تتبنى منهجا في التسلح كان الظن أن أحدا في ألمانيا لن يجرؤ على تبنيه مرة أخرى. تبنته حكومة المستشار شولتس فتداعت على الفور مخاوف مبررة في عواصم مختلف الدول المجاورة.
أوروبا، في ظل الحرب الدائرة فيها، تتغير. الحلف الغربى يهدده فيروس التفكك. مرة أخرى يعود الحديث عن الفوارق الثقافية بين مجموعة دول جنوب أوروبا ومجموعة دول الشمال وفوارق أخرى بين مجموعة دول غرب أوروبا ومجموعة دول الشرق.
بولندا غير المطمئنة إلى نوايا ألمانيا في المستقبل ومرتعبة من روسيا التوسعية من ناحية أخرى، راحت تجس نبض جاراتها الصغيرات عسى أن تفلح في تشكيل حلف خارج عن سيطرة الدول الكبرى.
اهتزت في كل أوروبا كما في العالم النامى صورة الديموقراطية الأمريكية، هذه القوة الناعمة بامتياز. اهتزت الصورة كنتيجة، في رأى البعض، لاجتماع عناصر انحدار هيكلية وسلوكية ليست قليلة.
في رأى بعض آخر ضعفت الديمقراطية الأمريكية في حد ذاتها فاهتزت صورتها وصارت سببا من أسباب الانحدار وليس نتيجة له.
*
انشغلنا بالصراع بين الكبار والتحول المتوقع في توازنات القوة في النظام الدولى متجاهلين أو غافلين عن تطورات خطيرة تقع أو تتعمق في أحوال النظام الإقليمى العربى.
أختار في السطور التالية بعض أهم هذه التطورات وبخاصة تلك التى يمكن لو استمرت أو تعمقت أن تؤدى لانفراط النظام الإقليمي العربي أو على الأقل تآكله جزءا بعد جزء وهيكلا بعد هيكل ومبدأً بعد مبدأ.
هناك أيضا من هذه التطورات تلك التى يمكن لو استمرت أو تعمقت أن تؤدى إلى أن يتحول النظام في بعض أجزائه وأشكاله فتتغير بعض خصائصه ولكن يبقى محافظا على هويته الأصلية، أى عروبته. أو يتحول في كلياته فيزول تماما أو تذوب هويته وبعض هياكله في نظام إقليمى آخر مختلف جذريا عن النظام الإقليمى العربى.
أولا: بالمحافظة على حلف الأطلسى مكونا أساسيا من مكونات القوة الصلبة الأمريكية نجحت أمريكا في استخدامه عند الحاجة لخدمة الدور المنوط بها في قيادة النظام الدولى.
هذا الوضع في النظام الدولى لا يجد ما يقابله في النظام الإقليمى العربى. إذ إنه حتى يومنا هذا لم تفلح الدولة القائد في النظام العربي الإقليمي في إقامة حلف تقوده لأغراض الدفاع عن النظام.
ثانيا: كل ما استطاعت أن تفعله هذه الدولة عند الحاجة هو أنها كانت تقيم حلفا في قضية بعينها على أن ينفض الحلف بانقضاء الحاجة. كان هذا ما فعلته مصر في مواجهاتها مع إسرائيل، العدو الأساسى للنظام منذ نشأته وحتى توقيع اتفاقيات التطبيع.
فعلته أيضا السعودية عندما قررت بصفتها الدولة القائد في النظام الفرعى للخليج العربي تشكيل حلف لشن حرب ضد الحوثيين المدعومين من إيران.
ثالثا: يجرى حاليا ولفترة من الزمن تجميد الكثير من أنشطة العمل العربي المشترك في انتظار أن تعود مصر لتنهض بمسئوليتها حسب الدور المخول نظريا للدولة القائد في النظام الإقليمي العربي.
طال أمد تجميد الأنشطة وفى ظني أنه طال هذه المرة في انتظار أن تظهر قيادة جديدة للنظام قادرة على النهوض بمسئوليتها حسب الدور المفترض أن يؤديه القائد الجديد للنظام.
غير خاف، حسب رأى متخصصين في بعض مراكز البحث الغربية، أن السعودية تستعد لتحمل هذه المسئولية في حال لم تتقدم مصر وتعود لتنهض بالمسئولية.
دليل هؤلاء على صدق تنبؤهم السعى الحثيث الذى تقوم به المملكة لإقامة ترسانتين في وقت واحد، واحدة لعديد أنواع ومنتجات ومشروعات القوة الناعمة، وهذه جارٍ استيراد واستعارة الكثير منها من مصر ودول أخرى، أما الترسانة الثانية فمخصصة لعديد أنواع ومنتجات ومشروعات القوة الصلبة وفى صدارتها السلاح.
هنا وبخصوص الترسانة الثانية لا أحد يستبعد احتمال الاستعداد المتنامى لحيازة القنابل النووية وبخاصة بعد أن صارت هذه الحيازة احتمالا ممكنا في ألمانيا وأستراليا، ومؤجلا في اليابان.
رابعا: لم ينشأ في النظام الإقليمى العربي مؤسسات أو أجهزة لتسوية النزاعات التى تنشب بين الأعضاء. حاولت أمانة الجامعة العربية مرارا أداء هذا الدور وفشلت باستثناء مرات معدودة وبوسائل غير مؤسسية.
فشلت أيضا في البناء فوق إنجازات بسيطة حققتها في مجالات أخرى. جانب كبير من هذا الفشل تعود المسئولية عنه إلى الانسحاب المتدرج عبر العقود الأخيرة لموقع هوية النظام وأقصد تحديدا عروبة النظام في الخطاب السياسى.
تراجع موقع الهوية متأثرا بخطاب العولمة وسياساتها. ومع ذلك ورغم تراجع العولمة في السنوات الأخيرة استمر موقع الهوية العروبية يتراجع في أجواء شعور بالعجز مخيم على المنطقة في معظم نواحيها.
خامسا: بالفعل تعددت مواقع الفشل التى تسببت في نشر الشعور بالعجز. ففى السودان وليبيا وفى اليمن وسوريا وفى لبنان وفلسطين وفى العراق أزمات حادة تستدعى تدخلا قويا من نظام إقليمي يتحمل إلى درجة غير بسيطة جانبا من مسئولية ما حدث.
صارت حاجة هذه الدول ماسة لدور تضطلع به دولتان مرشحتان لدور إنقاذ النظام وإلا انفرط لغير عودة. لا بد من لقاءات مصارحة مع مختلف القادة العرب تقود الدعوة لعقدها ومتابعة أعمالها مصر والسعودية.
ويا حبذا لو تستعد الدولتان لهذه الاجتماعات بفريق من المتخصصين والدبلوماسيين الخبراء في شئون هذه الدول قبل أن يبدأ الغرب سباقا جديدا على أفريقيا والمنطقة العربية، فتذهب الدول المنهكة فريسة سهلة في هجمة استعمارية جديدة.
لدى الدولتين معا من الخبرة وأدوات الضغط والتشجيع ما يسمح لهما بإنقاذ ما يمكن إنقاذه على صعيد النظام الإقليمي العربي المهدد الآن بالانفراط أكثر من أى وقت مضى.
أتصور أيضا أن إقامة مجلس أعلى لأمن واستقرار هذه العلاقة الاستراتيجية وحمايتها من دواعى أو تجاوزات المنافسة المشروعة بينهما اقتراح عاجل وجدير بالاهتمام.
أعتقد أن إسرائيل وأمريكا سوف ينتهزان فرصة الضعف الراهن في النظام العربي لتصعيد حملة غرس النفوذ الإسرائيلى في عديد الدول العربية إلى حد تتقطع عنده أواصر العلاقات العربية العربية. بعد قليل ينفرط النظام الإقليمى العربى!

*جميل مطر كاتب ومفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق

المصدر: الشروق – القاهرة

موضوعات تهمك:

دول الخليج 2023: استدارة غير مكتملة وسط محيط ملتهب

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة