حول الفساد والحكم الصالح

محمود زين الدين15 ديسمبر 2021آخر تحديث :
الفساد

تقارير مؤسسة الشفافية الدولية تظهر أن بعض دول أوروبا الغربية هي الأقل فسادا وأن بلدان العالم الثالث هي الأكثر فساداً.

الفساد ظاهرة، عرفتها المجتمعات الإنسانية، في كل الأزمنة والعصور فهي ظاهرة عالمية لها صفة الاستمرارية تهدد المجتمعات الإنسانية بالجمود والانهيار.

الفساد هو استخدام السلطة والنفوذ أو سلطة الآخرين ونفوذهم بالمؤسسات العامة لغايات شخصية وفئوية لا علاقة لها بمصلحة الجمهور أو الوطن أو الأمة.

الفساد عربيا ظاهرة مركبة يدخل فيها ضد إرادتنا عامل خارجي وضع لنا بنهاية الحرب العالمية الأولى حدود أقاليمنا ومواطئ أقدامنا بشكل منع عنا قيام الدولة الحديثة ومؤسساتها.

* * *

بقلم: يوسف مكي

موضوع الفساد والحكم الصالح، من المواضيع التي شغلت البشرية، منذ أقدم العصور. وما محاولة سن القوانين البابلية، وصياغة النظريات الإغريقية السياسية والاجتماعية، إلا خطوات جنينية، على طريق الحد من ظاهرة انتشار الفساد، وتعميم الحكم الصالح.
ولا شك أن التعميم العام لمفهوم الفساد، ينطوي على الاعتراف بأن الفساد ظاهرة، عرفتها المجتمعات الإنسانية، في كل الأزمنة والعصور. وعلى ذلك فإنها، ظاهرة عالمية، لها صفة الاستمرارية.

لكن هذا القول لا يمكن الأخذ به على علاته، كما لا يمكن أن يعطى طابع الإطلاق، لأن ذلك، لو حدث، لا سمح الله، فإنه يعني تهديد المجتمعات الإنسانية بالجمود، وربما بالانهيار.

وابتداء، فإن تعريف الفساد ببساطة، هو استخدام السلطة والنفوذ، أو سلطة الآخرين ونفوذهم، في المؤسسات العامة، من أجل غايات شخصية وفئوية ليست لها علاقة بمصلحة الجمهور أو الوطن، أو الأمة، أو ممارسة سلوكيات تعتبر ضمن منظومة القيم الاجتماعية، واللوائح القانونية، شاذة ومحرمة، ولا يتوقف أثرها في الغالب، عند حدود الفرد أو الجماعة التي تمارسها؛ بل يتعداه إلى شرائح، اجتماعية مختلفة.

ضمن هذا التعريف، يعتبر ضمن ظاهرة الفساد الفاضحة، تبديد الثروة، ونهب المال العام، وإقامة مشاريع وهمية، لا أساس لها، وليس لها عائد ربحي، وعقد صفقات احتيالية، وما إلى ذلك من الممارسات التي تضر بمصلحة الجمهور، والتي تهدد أمن الأوطان سلامة وحدتها.

كيف السبيل إذاً، لمواجهة الفساد وتعميم الحكم الصالح؟ سؤال أزلي، لا شك أن نقطة البداية في الإجابة عنه، هي تقييم وتفكيك ما هو شائع وموجود، وإعادة تركيبه، على أسس تضمن العدالة وتحقيق مصلحة الأمة. ولا شك أن عملية الرصد والمتابعة للظروف التي تستفحل فيها ظاهرة الفساد، ستشكل خطوة أخرى، في احتواء الظاهرة، وستساعد على إيجاد فهم أعمق لأسبابها.

لدينا على سبيل المثال تقارير مؤسسة الشفافية الدولية التي تشير إلى أن بعض دول أوروبا الغربية، هي الأقل فساداً، وأن بلدان العالم الثالث هي الأكثر فساداً.

سيتنبه آخرون، إلى هذا التصنيف، ويطرحون أسئلة مشروعة، كغياب دول كبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من قائمة الدول الأقل فساداً، وغياب معظم البلدان العربية، من قائمة الدول الأكثر فساداً.

وسيقال إن من الصعوبة تحديد مواقع الفساد، ذلك أنه من الممكن أن يسكن في أعتى الدول الديمقراطية عراقة، كما يمكن أن يتواجد في أكثر البلدان تخلفاً واستبداداً، وغياباً للقوانين، وحق المشاركة في صناعة القرار.

وجوابنا عن ذلك حاسم، في رفض هذا الاستنتاج الموغل في بساطته، على الرغم من قناعتنا بمشروعية طرحه. فإذا سلمنا بوجاهة التقارير التي تصدر عن مؤسسة الشفافية الدولية، في هذا السياق، واعتبرناها بوصلة، في تقييمنا هذا. فإننا نلاحظ أن النظام السياسي الديمقراطي عرضة للفساد، شأنه في ذلك شأن أنظمة الاستبداد.

لكننا في الحقيقة لا نعلم كثيراً عمّا يجري في الأنظمة الشمولية والمغلقة، لأن كل الحقائق مغيبة، في حين يجري تسليط الضوء جهاراً، على ما يجري داخل الأنظمة التي تسود فيها الشفافية وسيادة القانون.

إنها تخضع بفاعلية لكافة أنواع الكشف، والتحليل الجزئي والكلي، كما يقال في علم الاقتصاد. والسؤال فيها غير محرم، ولا يجرم سائله. أما في الأنظمة الشمولية والاستبداد، فإن السؤال بحد ذاته جريمة تعاقب عليها اللوائح والقوانين، ويخوَن فيها السائل.

لعلنا لا نأت بجديد، حين نقول إن المجتمعات الإنسانية الحديثة، كانت بين خيارين. الخيار الأول، وقد ساد فترة طويلة، وفيه تغيب فيه فكرة الحرية والمشاركة في صناعة القرار، ويسود فيه نظام توتاليتاري، تستثمر فيه بطانة من الناس، من خلال وجودها في أعلى سلم الهرم، الفرصة لتحقيق المغانم والمكسبات لذاتها وللفئات المتحلقة حولها. وفي مقابل ذلك، نشأ نظام سياسي، في العصر الحديث، ساد بعض الأقطار العربية، منذ الخمسينات، يقوم على أساس برلماني في ظاهره، لكن في جوهره، يمثل إقطاعاً سياسياً، تغيب فيه فكرة الدولة الحديثة، ويمارس تزييف الانتخابات، والتزوير، والتلاعب والرشوة. وتوزع الغنائم على أسس من المحاصصات الطائفية والإثنية، والعشائرية، والقبلية، وتتلاشى اللوائح والقوانين.

إن منظومة القيم والثقافات السائدة، تجعل من الصعوبة بمكان القضاء على ظاهرة الفساد، وتأمين حقوق الناس. وقد وجدنا أن كثيراً من الوعاظ، غارقين في عمليات الفساد، حتى أخمص أقدامهم، وينطبق عليهم المثل الدارج، حاميها حراميها. لا بد إذاً من حل جذري وعملي للقضاء على ظاهرة الفساد.

ومرة أخرى، نعود للبوصلة، التي بدأنا بها هذا الحديث، وتقارير مؤسسة الشفافية الدولية، سنجد أن أسباب احتواء ظاهرة الفساد، في بعض الدول الأوروبية، وبشكل خاص الدول الاسكندنافية، هو المزاوجة بين الحرية، والعدل الاجتماعي.
بما يعني وجود قوانين ومؤسسات مجتمع مدني، وضرائب على الدخل تتجه إلى الأعلى، مع ازدياد وتضاعف الثروة؛ بحيث تتأكد سيادة القانون، وحق الناس في المشاركة بتقرير مصائرهم وأقدارهم، وبما يعني تضييق الفجوة بين الغني والفقر، والحيلولة دون تراكم الثروة.

ويبقى أن نشير، إلى أن الفساد في الوطن العربي، هو ظاهرة مركبة، يدخل فيها بالضد من إرادتنا ورغباتنا، عامل خارجي، حين وضع لنا، هذا الأجنبي في نهاية الحرب العالمية الأولى، حدود أقاليمنا، ومواطئ أقدامنا بشكل منع عنا قيام الدولة الحديثة، ومؤسساتها.

* د. يوسف مكي كاتب وأكاديمي سعودي

المصدر| الخليج

موضوعات تهمك:

التدين والفساد.. أين الخلل؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة