البحر الأسود: كم من الدماء قبل احمرار المياه؟

محمود زين الدين9 يوليو 2022آخر تحديث :
البحر الأسود الصفقة الغذائية

مياه البحر الأسود كانت الأكثر دموية بعد انطواء صفحة الحرب الباردة، بالمقارنة مع مياه بحار العالم الأخرى.
تسجل شواطئ البحر الأسود أعلى تمركز لقوى رئيسية متحوّلة؛ مما لا يعني أنّ التنافس متعدد الأجناس يبيح النظر إليه بعدسة التناظرات المتعاكسة فقط.
يتوجب قراءة حرب أوكرانيا مع أبعادها الجيوسياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية في إطار أهمية البحر الأسود ومخاطر عديدة يمكن أن يحتضنها.
تمركز قوى رئيسية وتنافس متعدد الأجناس بالبحر الأسود يثير سؤالا حارقا جارحا: كم من الدماء القانية قبل انقلاب لون المياه وتغير تسمية البحر من أسود إلى أحمر!
* * *

بقلم: صبحي حديد
تحت عنوان «مرحباً بكم في حقبة حرب البحر الأسود» نشرت مجلة «فورين بوليسي» مقالة لافتة وقّعها البريطاني ماكسمليان هيس، الباحث المختصّ بشؤون آسيا الوسطى في «معهد أبحاث السياسة الخارجية» الأمريكي، ينبّه فيها إلى أنّ الغزو الروسي في أوكرانيا يتوجب أن يُقرأ، إلى جانب أبعاده الجيوسياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية المعروفة، في إطار المناسبة الأحدث حول أهمية البحر الأسود، أوّلاً؛ والمخاطر العديدة التي كان، أو يمكن أن يكون، ذلك البحر حاضنة لها، تالياً.
ولا عجب، بالطبع، إذا استذكر المرء ما يشدد عليه هيس من أنّ مياه هذا البحر كانت الأكثر دموية بعد انطواء صفحة الحرب الباردة، بالمقارنة مع مياه العالم الأخرى، واللائحة تتضمن التالي، سواء في مياهه الفعلية أو على مقربة منها:
مواجهات ترانسنيستريا في مولدوفا، المعارك الجورجية الأبخازية، الحرب الأهلية افي جورجيا، المواجهة الروسية الجورجية، الحربان الأولى والثانية في الشيشان، روسيا وأوكرانيا في جولتَيْ 2014 و2022، أرمينيا وأذربيجان في صراعَيْن حول ناغورنو قره باغ.
أمّا الدول، وبعضها قوى عظمى كونية، التي تشاطئ البحر الأسود أو تدانيه أو تتقاطع مع سواحله فإنها، بمعنى الكتل الكبرى أيضاً، تشمل روسيا، حلف الناتو (أي الولايات المتحدة ضمناً) الاتحاد الأوروبي، وتركيا.
الصين، كما يشير هيس، تقترب حثيثاً من موقع القوّة الناشئة، تجارياً واستثمارياً بادئ ذي بدء؛ ثمّ، استطراداً، حَصْد عقود الإنشاء والإعمار وتطوير البنى التحتية في جورجيا وبلغاريا ورومانيا، في انتظار عقود أوكرانيا ما بعد مآلات الغزو الروسي.
وإذا جاز للأرقام أن تنطق في مضمار الأهمية التجارية للبحر الأسود كوسيط نقل وشحن وعبور، هنا أمثلة بليغة: بحر الشمال الروسي استضاف حمولة 34.9 مليون طنّ متري من البضائع في 2021، بالمقارنة مع 898 مليون طنّ متري عبر بوابة الدردنيل في البحر الأسود خلال السنة ذاتها، وهذا يعادل قرابة 70% من 1.27 مليار طنّ متري نُقلت عبر قناة السويس.
على مستوى عسكري صرف، لا يلوح أنّ القيادة العسكرية الروسية (أمثال وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف) قبل هرم القيادة المدنية كما يتصدره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ سوف تصحو، بمعنى أن تبرأ، من صدمة إغراق طرّاد أسطول البحر الأسود الروسي «موسكوفا» أواسط نيسان (أبريل) الماضي، بواسطة صواريخ «نبتون» وما أعقبه من ارتباك قياسي في تدبّر حلول دفاعية ساحلية، وضمان أمن شواطئ روسيا الجنوبية الغربية.
ولم تعد خافية الطرائق التركية في استخدام مياه البحر الأسود للمناورة بين موسكو وكييف خدمة للمصالح التركية، سواء عبر إغلاق المضائق أمام السفن الحربية الروسية تارة أو التلويح بفتحها لنقل الحبوب إلى مطاحن العالم تارة أخرى.
وقبل أيام كان أولكسي دانيلوف، أمين مجلس الأمن القومي والدفاع في أوكرانيا، قد حثّ جورجيا على فتح «جبهة ثانية» ضدّ روسيا، مستنكراً وضعية «الحياد» التي تتخذها تبليسي، ورفضها المشاركة في فرض العقوبات على روسيا.
وإذا كان الرجل لا يعيد تكرار الأصداء ذاتها التي تتردد في أروقة الحلف الأطلسي، لجهة استدراج موسكو إلى حماقة أخرى جديدة عسكرية المحتوى؛ فإنه، على أقلّ تقدير، يستذكر سلسلة الحقائق الشائكة التي تربط بين روسيا وجورجيا، وكيف يمكن أن تنقلب إلى مواجهات ساخنة عمادها اعتراف موسكو باستقلالية إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا، ومهادها القوقاز التاريخي.
يتناسى دانيلوف، عامداً بالطبع، أنّ جورجيا واحدة من أشنع فضائح الاتجار الغربي، الأوروبي والأطلسي والأمريكي، مع بوتين ما بعد مؤتمر ميونخ 2007؛ الذي شهد، من جانب أوّل، مغازلة روسيا وسماع حسرات سيد الكرملين على سحب القواعد السوفياتية من مولدوفا وجورجيا؛ كما شهد، من جانب ثانٍ أخطر، شروع موسكو في تأسيس معادلة قوّة أمنية رئيسية في البحر الأسود عبر غزو جورجيا.
ليس عسيراً عثور المرء على خلفيات اقتصادية جيوسياسية، كونية أكثر منها إقليمية أو محلية، تتيح قراءة عشرات التطوّرات التي شهدتها وتشهدها بلدان أوروبا الشرقية، فهذا «المعسكر الاشتراكي سابقاً» لم يكن قد استكمل نصف العقد الأوّل من ثوراته الديمقراطية الليبرالية حتى استعجل الانقلاب إلى النقائض القديمة بعد أن أضفى عليها أكثر من مسحة واحدة مصطنعة.
سياسات القوى الكبرى، قبل مشكلات المجتمع الكبرى، ظلت الهادي في هذه الأنظمة الجديدة، لأنها ببساطة كانت في رأس الأسباب الجوهرية لصعود تلك الثورات، واتكائها أكثر ممّا ينبغي على الغرب وأمريكا. وفي ملفّ جورجيا تحديداً، لم تكن خافية المصالح الاقتصادية الاستراتيجية الكامنة خلف ما لاح أنه نزاع بين واشنطن وموسكو في جورجيا.
فالموقع الهامشي الذي تشغله أبخازيا وأوسيتيا لا يطمس حقيقة أنهما بمثابة «شرارات اللعبة الكبرى للقرن الحادي والعشرين، حيث القضية هي التالية: مَنْ سيحظى بالسيطرة على حوض بحر الخزر، مخزون مصادر الطاقة الأغنى بعد الشرق الأوسط؟» كما تساءل يومئذ رجل عليم ببواطن الأمور مثل جوزيف جوفي، رئيس تحرير الجريدة الألمانية المحافظة «داي تزايت».
بالطبع، ليس ثمة سبب واحد يدفع المرء إلى تبرير التدخّل العسكري الروسي في جورجيا، وبعده اجتياح أوكرانيا، أو اللجوء إلى سياسة منهجية لتأجيج النزعات الانفصالية هنا وهناك في «الجمهوريات» السوفييتية السابقة.
غير أنّ الثابت، في المقابل، هو أنّ رهانات الرئيس الجورجي الأسبق ميخائيل ساكاشفيلي (المنضوية ضمن الإطار العريض لسياسات واشنطن، في نهاية المطاف) لم تكن تستفزّ موسكو في المسائل المتصلة بفتح الباحة الخلفية لروسيا أمام امتداد الحلف الأطلسي، فحسب؛ بل كان القصف الجورجي العشوائي لعاصمة أوسيتيا الجنوبية بمثابة إلقاء قفاز التحدّي في وجه موسكو، التي كانت في الأصل تتحرّق لاستقبال ذلك القفاز.
وقبل شهر فقط من طور التسخين ذاك، كانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس تزور تبليسي، كي تدشن الخطوة الأولى على درب انضمام جورجيا إلى الأطلسي من جانب أوّل، وكي تعطي إطاراً سياسياً ودبلوماسياً لمناورات عسكرية أمريكية جورجية مشتركة، أشرف على تنفيذها قرابة 1000 عسكري أمريكي.
وفي استعراض تاريخ النفاق الأمريكي والكيل بأكثر من مكيال إزاء المسائل المتماثلة، لم يكن مدهشاً أن تسكت واشنطن عن الاستفزازات العسكرية الجورجية، وأن تستنكر في الآن ذاته لجوء موسكو إلى القوّة العسكرية؛ أو، في تتمة اخرى مضحكة/ مبكية، إعابة موسكو بسبب «الاستخدام غير المتناسب» للقوّة، وكأنّ البنتاغون استخدم مبدأ القوّة المتناسبة في غزو أفغانستان والعراق!
أو كأنّ موسكو، وليس واشنطن، هي صاحبة مئات القواعد العسكرية الدائمة في طول العالم وعرضه، وعشرات الأساطيل الجاهزة أبداً للتدخل والغزو!
وآنذاك، بعد اتضاح الخسران المبين للخيارات الأمريكية في جورجيا، وبعد إنفاق ما يزيد عن ملياري دولار أمريكي في تسليح جيشها بدل تنمية اقتصادها، لم يجد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ما يفعله سوى إرسال المزيد من الأساطيل، حتى إذا جرى تمويهها تحت قناع المساعدات الإنسانية.
وفي العودة إلى مقالة هيس، يساجل الرجل بأنّ إهمال البحر الأسود كفضاء ستراتيجي وحقيقة أنه شهد الكثير من النزاعات، هما أمران ينتهيان إلى النتيجة ذاتها: أنّ شواطئه تسجّل التمركز الأعلى للقوى الرئيسية المتحوّلة؛ الأمر الذي لا يعني أنّ التنافس متعدد الأجناس يبيح النظر إليه بعدسة التناظرات المتعاكسة فقط.
ما لا يقوله هيس، حياءً أو خشية، هو السؤال الحارق الجارح: كم من الدماء القانية، قبل انقلاب لون المياه واستبدال تسمية البحر من أسود إلى… أحمر!
* صبحي حديدي كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

المصدر: القدس العربي

موضوعات تهمك:

تحذيرات من تحول البحر الأسود لساحة مواجهات عسكرية

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة