اجتثاث النيوليبرالية قبل إصلاح الاقتصاد

محمود زين الدين19 فبراير 2022آخر تحديث :
النيوليبرالية

نحن العرب، من المقلدين دوماً، التابعين طوعاً، المنبهرين ببلادة، فإننا دخلنا كالعادة في تلك الحلقة الجهنمية دون تمحيص أو تبصر.

رأينا العالم يتغير ويتجه إلى كل ما هو ظالم وغير أخلاقي وغير مؤمن بالقيم وتدمير كل ما اقتنعت به البشرية عبر مئات القرون السابقة.

اجتثاث الفكر السياسي النيوليبرالي من عقول الناس ومجتمعاتهم شرط لنجاح أي انتقال من نظام اقتصادي ظالم إلى اقتصاد أخلاقي تشاركي عادل.

حل الفساد المستشري وتشوهت الديمقراطية وانتشر الجنون اليميني المتطرف وبدأت مؤسسات العائلة والأحزاب والنقابات والمجتمع الأهلي تصبح تحت رحمة الأمن.

نظام اقتصادي قاد العالم إلى أزمات مالية وبطالة وإفقار مليارات البشر وراءه فكر سياسي نيوليبرالي برر قيامه وبطرق شيطانية أقنع مليارات البشر بتفوقه على ما سبقه من رأسمالية واشتراكية!

* * *

بقلم: علي محمد فخرو

عبر الأسابيع الثلاثة الماضية أبرزنا في عدة مقالات ما تموج به الساحة الدولية، بما فيها الوطن العربي، من نقاشات بشأن النظام الاقتصادي الرأسمالي العولمي المتأزم، وضرورة الانتقال إلى نظام اقتصادي آخر.
لكن ذلك النظام الاقتصادي، الذي قاد العالم إلى أزمات مالية، وإلى بطالة مذلة لمئات الملايين من البشر، وإلى إفقار متنام لمليارات البشر، وإلى تدمير لدولة الرعاية الاجتماعية، وإضعاف متعمد ممنهج لقوى المجتمعات المدنية السياسية والنقابية والحقوقية، وراءه فكر سياسي برر قيام ذلك النظام الاقتصادي فكرياً، وخطط بطرق شيطانية لإقناع مليارات البشر بتفوق ذلك النظام على ما سبقه من أنظمة رأسمالية واشتراكية!
ورفع رايات البشائر الكاذبة، بقرب انتقال الإنسانية إلى حالات الوفرة في النعم المادية، والسلام في العلاقات الاجتماعية والطبقية، ولم يترك وعوداً مشرقة إلا وكذب بشأن قرب تحققها.
إذا لم يحلل ذلك الفكر السياسي البائس، وينقد بقوة وعمق، ويتخلى العالم كله، بما فيه الوطن العربي، عن تبنيه بجنون وطفولة رعناء، فإن كل جهود تعديل مسار النظام الاقتصادي الحالي ستذهب هباءً.
نذكر القارئ بأن الفكر السياسي الذي نعنيه هو المسمى، بشطارة التلاعب بالألفاظ، الفكر النيوليبرالي. وقصة تكونه ومسار سيرورته عبر الستين سنة من عمره، يجب على الأخص أن يعرفها ويعيها بعمق شباب المستقبل، الذين يراد لهم أن يظلوا تائهين في عوالم الثقافة العولمية المسطحة البليدة، التي تركزت في ملاعب كرة القدم ومسارح الصخب الموسيقي والغنائي الغريزي.
ذاك الفكر بدأ أساساً بوضع ملامحه العامة، من خلال تكوين جمعية «جبل بليرين» عام 1947 من قبل مؤسسها فريدرك فون هايك، وبحضور مفكرين اقتصاديين انتهازيين، من أمثال العرّاب ملتون فريدمان.
آنذاك بشّرت الجمعية بأن فلسفتها السياسية الجديدة ستنتشر خلال عشر سنوات لتعم العالم كله. وبالفعل، ما إن سمعت طبقة الأغنياء في العالم الغربي بالطرح الجديد، حتى تبنته بكل أصناف الدعم.
بدأت المساعدات المالية السخية تنهمر على كليات الاقتصاد الجامعية الأمريكية والأوروبية، التي تدرس الفلسفة الاقتصادية الرأسمالية النيوليبرالية الجديدة، وذلك لتخريج الألوف من الاقتصاديين المؤمنين بتلك الفلسفة، والمرشحين لتولي أعلى المناصب في الحكومات والمؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي.
وانهمرت المساعدات المالية لعشرات مراكز البحوث الأمريكية والأوروبية، من أجل وضع تلك الفلسفة في قوالب عملية تنفيذية، وبصور مقنعة تستسيغها الجماهير، وتؤدي في الوقت نفسه إلى وجود مادة جاهزة لوسائل الإعلام التابعة أصلاً لجهات ولأفراد من مالكي المليارات.
وبدأت كبريات منصات الإعلام تهمش وجود كل من يرفض الفلسفة الجديدة، وتسبغ كل صفات المديح والتعظيم على من يتبناها من كتاب وأساتذة الاقتصاد.
وفي بضع سنوات وجدت آلاف الكتب والصحف ومحطات التلفزيون والإذاعة، التي تنادي بتقليص وجود النقابات إلى الحد الأدنى، وبتخصيص كل الخدمات الصحية والتربوية العامة وغيرها مما كان ملكاً عاماً، وبزيادة الضرائب على المواطنين وتخفيضها على الأغنياء.
فجأة وبسرعة البرق رأينا العالم يتغير ويتجه إلى كل ما هو ظالم وغير أخلاقي وغير مؤمن بالقيم، وإلى تدمير كل ما اقتنعت به البشرية عبر مئات القرون السابقة.
فجأة حل الفساد المستشري، وتشوهت الممارسات الديمقراطية، وانتشر الجنون اليميني المتطرف، وعم الظلام محل الأنوار، وتراجع كل فكر أمام الهجمة الفكرية الجديدة، وبدأت مؤسسات العائلة والأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية والحقوقية تصبح تحت رحمة الاستخبارات.
أما نحن العرب، من المقلدين دوماً، التابعين طوعاً، المنبهرين ببلادة، فإننا دخلنا كالعادة في تلك الحلقة الجهنمية دون تمحيص أو تبصر.
إذن، لا بد من اجتثاث ذلك الفكر السياسي النيوليبرالي من عقول الناس ومن مجتمعاتهم كشرط لنجاح أي انتقال من نظام اقتصادي ظالم إلى اقتصاد أخلاقي تشاركي عادل. المعركة كبيرة وطويلة، وهي تتحدى شباب وشابات المستقبل في الوطن العربي كما في العالم.

* د. علي محمد فخرو سياسي ومفكر بحريني
المصدر| الشروق – القاهرة

موضوعات تهمك:

العالم في خطر… 5 مؤشرات مقلقة

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة