أوكرانيا مختبَراً للحروب القادمة: مَن سيضحك أخيراً؟

محمود زين الدين8 يناير 2023آخر تحديث :
حرب أوكرانيا

افتتحت حرب أوكرانيا مرحلة جديدة في مسار احتدام الصراعات الدولية.
الهزّات الارتدادية للزلزال المتمثّل في حرب أوكرانيا بدّدت جملة من القناعات الراسخة.
الحرب في أوكرانيا ذات طبيعة مركّبة، تَدمج بين أنماط تقليدية من القتال ومن منظومات السلاح، وبين أخرى أكثر حداثة.
أقرّت ميركل بأن الغاية من اتفاقية مينسك كانت إفساح المجال أمام أوكرانيا لتتسلّح، وتُحسّن قدراتها بمواجهة الجيش الروسي.
الحروب وما يتخلّلها من معارك وعمليات عسكرية هي من منظور الجيوش وهيئات أركانها، ساحات اختبار حيّة لعقائد القتال ومنظومات السلاح.
تكفّلت وقائع الميدان و”إنجازات” أوكرانيا العسكرية بـ”فضل التكنولوجيا الغربية” في تظهير دور الغرب في تسليح أوكرانيا وإع دادها للحرب.
فرضية الحرب الطويلة كرّا وفرّا وما ستُسبّبه من خسائر بشرية ومادّية إضافية، وتداعيات كارثية اقتصادية وسياسية دوليا تَحمل خبراء لاستشراف “سيناريو كوريا” بأوكرانيا.
* * *

بقلم: وليد شرارة

«الاعترافات» التي أدْلت بها المستشارة الألمانية السابقة، أنغيلا ميركل، في مقابلة مع صحيفة «تسايت»، حول الوظيفة الفعلية لـ«اتّفاقية مينسك»، التي صيغت في 2014 من قِبَل مجموعة الاتّصال الثُّلاثية بشأن أوكرانيا، والتي كانت تتألّف من ألمانيا، إضافة إلى روسيا و«منظّمة الأمن والتعاون في أوروبا»، أكدت صدقيّة اتّهامات روسيا لجميع القوى الغربية، بما فيها تلك المصنَّفة معتدلة، بأنها كانت تعدّ لحرب بالوكالة ضدّ موسكو.
أقرّت ميركل بأن الغاية من الاتفاقية كانت إفساح المجال الكافي أمام أوكرانيا لكي تتسلّح، وتُحسّن قدراتها على مجابهة الجيش الروسي. وقد تكفّلت وقائع الميدان، و«الإنجازات» العسكرية الأوكرانية بـ«فضل التكنولوجيا الغربية»، في تظهير ذلك الأمر بجلاء.
لقد تدفّقت هذه التكنولوجيا، بسخاء غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، من مراكز المعسكر الغربي إلى الحلفاء الأوكرانيين، وقد ازداد تدفّقها كمّاً ونوعاً ارتباطاً بمراحل الحرب المختلفة.
تَرافق ما تَقدّم مع تجاوُز غربي تدريجي لخطوط حُمر روسية متّصلة بتسليح أوكرانيا، وصل إلى مستوى مرتفع من التحدّي الأميركي المباشر لموسكو مع إرسال بطّاريات «باتريوت» إلى كييف، رغم «نصيحة» المتحدّثة باسم وزارة خارجيتها، ماريا زاخاروفا، إلى «مَن يتّخذون القرارات في واشنطن بأن يستمعوا إلى تحذيراتنا المتكرّرة بشأن توفير الأسلحة لأوكرانيا».
في الحقيقة، فإن الهزّات الارتدادية، الجيوسياسية والجيو-اقتصادية والفكرية، للزلزال المتمثّل في الحرب في أوكرانيا، قد بدّدت جملة من القناعات الراسخة حول طبيعة العلاقات الدولية التي سادت حقبةَ ما بعد الحرب الباردة، بما فيها تلك المتعلّقة باحتمالات اندلاع نزاعات طويلة ودامية بين دول العالم.
ولا شكّ في أن «الثورة في الشؤون العسكرية»، وتَرجماتها في الميدان خلال حربَي الكويت (1991) وكوسوفو (1999)، قد ساهمت أساساً في تكريس القناعة بأن أيّ صِدام مباشر بين الغرب وقوى غير غربية، سيُحسم بسرعة لصالح الأوّل بسبب تفوّقه التكنولوجي النوعي.
غير أن دروس حرب أوكرانيا، التي يرى ريتشارد هاس، رئيس «مجلس العلاقات الخارجية الأميركي»، أنها تشكّل «عودة للتاريخ»، ما يبرّر عنوان مقاله على موقع «بروجيكت سنديكايت»، «الدروس الـ10 لعودة التاريخ»، قد أدّت إلى تداعي ما ظنّه بعض الحالمين بهيمنة غربية دائمة، ثوابت أبدية.
وبمعزل عما تضمّنه مقال هاس من انحيازات إيديولوجية – سياسية، فإنه لخّص مجموعة من الخلاصات التي تَفرض نفسها نتيجة للحرب المذكورة. أهمّها هي أن الدول غير الغربية الصاعدة لن تتردّد في اللجوء إلى نمط تقليدي من المجابهة دفاعاً عمّا تَعتبره أمنها القومي ومصالحها الحيوية.
وأن مقولات عصر بدايات العولمة، من نوع «التبعية الاقتصادية المتبادلة» و«ضخامة كتلة المصالح المشتركة»، لن تثني الدول عن تغليب الاعتبارات الاستراتيجية على تلك الاقتصادية في المحصّلة النهائية، وأن ديناميات السوق الرأسمالية لن تُمكّن المركز الغربي من «إدماج» الصين مثلاً في «نظامها الدولي الليبرالي»، أي إخضاعها لهيمنته.
لقد «تجرّأت» روسيا على التدخّل العسكري المباشر في أوكرانيا، على رغم علمها بضخامة القدرات العسكرية النوعية التي قام الغرب بضخّها إلى الأخيرة، وبما سيقوم بضخّه بعد هذا التدخل.
وأصبح السؤال المركزي في الأيام التي تلت هو حول نوايا الصين حيال تايوان. في كلّ الأحوال، توصّلت دول كألمانيا، وأخيراً اليابان، إلى استنتاجات هاس نفسها، بعد أن ظنّت لعقود بإمكانية تخصيص القسم الأعظم من مواردها للنموّ الاقتصادي، ما يفسّر زياداتها الضخمة لإنفاقها العسكري.
غير أن التحدّي المطروح على جميع دول العالم، غربية كانت أو غير غربية، لا يقتصر على زيادة الإنفاق العسكري، بل يشمل أيضاً إعادة تكييف قاعدتها الصناعية العسكرية، ومنظومات سلاحها، لتتلاءم مع الشكل الجديد للنزاعات، والذي يتجلّى حالياً في أوكرانيا.
فالحروب، وما يتخلّلها من معارك وعمليات عسكرية، هي من منظور الجيوش وهيئات أركانها، ساحات اختبار حيّة لعقائد القتال ومنظومات السلاح.
الحرب في أوكرانيا ذات طبيعة مركّبة، تَدمج بين أنماط تقليدية من القتال ومن منظومات السلاح، وبين أخرى أكثر حداثة.
فقد تَلازم الزجّ بعشرات آلاف الجنود وآلاف المدرّعات في جبهات ممتدّة على مئات الكيلومترات، مع استخدام واسع النطاق للمسيّرات والصواريخ والذخائر الذكية، بشكل لا سابق له في جميع النزاعات الماضية.
النقطة الأخرى التي تستوقف الخبراء العسكريين هي الأكلاف الباهظة، البشرية والعمرانية والمادّية، لمِثل هذا النوع من النزاعات. يجري الحديث، من دون تحديد دقيق لاعتبارات سياسية وعسكرية، عن عشرات آلاف القتلى والجرحى لطرفَي الحرب، إلى جانب الأرقام المهولة التي يتمّ تداولها حول أثمانها المادّية.
اعتقد بعض هؤلاء الخبراء، وخصوصاً الغربيين منهم، ومعهم أجهزة الدعاية الإعلامية – الإيديولوجية، أن الاستخدام المكثَّف لآخر ابتكارات التكنولوجيا العسكرية الذكية، وما نجم عنه في أواخر الصيف الماضي من تقدُّم أوكراني في الميدان، كفيلٌ بإلحاق سلسلة هزائم عسكرية بروسيا ستُفضي على مدى ليس ببعيد لاندحار جيشها وانسحابه الكامل من جميع الأراضي التي سيطر عليها منذ عام 2014،.
بل وذهب بعض أصحاب هذه التحليلات، من غير الخبراء العسكريين، كروبرت كابلان وآن إبيلبوم، إلى تَوقّع سقوط «منظومة بوتين» في روسيا نفسها، وتفكُّك هذا البلد بفعل نكبته في أوكرانيا.
لكن سيْر المعارك خلال الأشهر الماضية، واتّضاح الطبيعة الموضعية للاختراقات الأوكرانية، والخسائر الضخمة التي تكبّدها الأوكرانيون على الجبهة وفي عمق البلاد، نتيجة للاستهداف الروسي المنهجي للبنى التحتية، ونجاح الجيش الروسي في تثبيت خطوطه الدفاعية تمهيداً لهجوم جديد يعدّ له في أواخر الشتاء.
جميعها معطيات دفعت مسؤولين غربيين، وبعض المحلّلين، إلى «التفكير بصوت عال» حول ضرورة اتّباع خيار التفاوض في النهاية. وحتى مَن لا يتطرّق إلى الخيار المذكور، كالأمين العام لـ«الناتو»، ينس ستولتنبرغ، المدفوع بحقد محموم ضدّ الروس، بات يجزم أن الحرب ستطول، ويتجاهل سيناريوات النصر السريع التي شاعت.
فرضية الحرب الطويلة، وما سيتخلّلها من عمليات كرّ وفرّ، وما ستُسبّبه من خسائر بشرية ومادّية إضافية، ومن تداعيات كارثية اقتصادية وسياسية على الصعيد الدولي، هي التي تَحمل جدعون راشمان، المعلّق الرئيس حول الشؤون الدولية في «فايننشال تايمز»، إلى استشراف احتمال تكرار «سيناريو كوريا» في أوكرانيا.
يَعتبر راشمان أن عدم قدرة أيّ من الطرفين على الحسم الكامل، واستحالة التوصّل إلى تسوية نظراً إلى التناقض الجذري بين مواقفهما، واستمرار استنزافهما بشرياً ومادّياً، هي في مجملها عوامل قد تفضي إلى وقفٍ لإطلاق النار، تليه اتّفاقية هدنة مديدة، شبيهة بتلك التي تمّت بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية في 27 تموز 1953، والتي أدّت إلى وقف للأعمال العدائية، من دون أن تتبعها اتّفاقية سلام.
الأكيد، أيّاً كانت مآلات الحرب في أوكرانيا، هي أنها افتتحت مرحلة جديدة في مسار احتدام الصراعات الدولية، وتسارُع تفكّك منظومة السيطرة الغربية، «النظام الدولي الليبرالي»، وأن من يستعدّ لخوض نزاعات الغد يسعى جاهدا للتعلّم من دروسها، لأنه كثيراً ما تبدأ الحرب الجديدة من حيث توقّفت سابقتها.

*وليد شرارة كاتب وباحث في العلاقات الدولية

المصدر: الأخبار – بيروت

موضوعات تهمك:

حرب أوكرانيا في عامها الثاني: من سيدفع الثمن؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة