ألمانيا.. وعبء حظر الغاز الروسي

محمود زين الدين18 أبريل 2022آخر تحديث :
الغاز الروسي

عندما يزعم قادة الأعمال والسياسيون أن التكلفة الاقتصادية لإجراءات الحد من تهديد وجودي كتغير المناخ لا يمكن تحملها، فلا تصد قهم.
قادة ألمانيا قرروا فيما يبدو تصديق الصناعيين الذين يزعمون أنهم لا يستطيعون العيش دون الغاز الروسي وانتقدوا الاقتصاديين الذين يخالفونهم الرأي.
ألمانيا تطالب دول جنوب أوروبا بتحمل ألم لا يحتمل مدعية أنها اقترضت بشكل غير مسؤول لكن الألمان غير مستعدين لعقوبات أقل بكثير لسياستها اللامبالية بالاعتماد على الطاقة الروسية.
* * *
سلطتُ الضوء سابقاً على عدم استعداد ألمانيا المثير للغضب للفطام عن الغاز الروسي. فهذا مكلف، لكنه ليس مدمراً لاقتصاد البلاد. وجانب من وجهة نظري يدور حول النفاق.
فألمانيا على استعداد لمطالبة دول جنوب أوروبا بتحمل ألم لا يحتمل، مدعية أن هذه الدول اقترضت بشكل غير مسؤول، لكن الألمان غير مستعدين لقبول عقوبات أقل بكثير لسياستها غير المبالية الخاصة بالاعتماد على الطاقة الروسية، رغم عقود من التحذيرات حول المخاطر التي خلقتها هذه السياسة.
لكن الجزء الآخر من وجهة نظري يدور حول عدم وجاهة هجوم السياسيين الألمان على الاقتصاديين – بمن فيهم الاقتصاديون الألمان – الذين يقولون إن تكلفة حظر الغاز يمكن تحملها. ويصدق السياسيون الألمان، بدلاً من ذلك، المزاعم بوقوع عواقب وخيمة ينذر بها الصناعيون. وكما أشرت، يوجد تشابه قوي هنا مع تاريخ حماية البيئة. فالصناعة تزعم دوماً أن اللوائح المقترحة يكون لها تأثير اقتصادي مدمر. وبحد علمي، هذه التنبؤات لا يحالفها الصواب ولو من بعيد.
ولذا يجب أن يكون الدرس واضحاً وهو: لا تثق أبداً بالنصائح السياسية من الشركات الكبرى التي تنطق بلسان كتابها الخاص. واليوم أريد أن أتوسع في هذه النقطة، أولاً بمناقشة تاريخ سياسة المطر الحمضي في أميركا، ثم مع بعض الاعتبارات الأوسع. في عام 1990، تم توليد أكثر من 50% من كهرباء أميركا من محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم، (وهو رقم انخفض إلى 19% اعتباراً من عام 2020).
وأطلقت هذه المحطات ثاني أكسيد الكبريت الذي اتحد مع مياه الغلاف الجوي فأنتج حامض الكبريتيك. وهذا الحامض لا يريد أحد حقاً أن يُسقط مطراً على المزارع والغابات والناس. ولذا، أدخل تعديل عام 1990 على «قانون الهواء النظيف» نظاماً لتقليص المطر الحمضي، دون القضاء عليه.
فقد تحددت الكميات المسموح لمحطات الطاقة بإطلاقها من ثاني أكسيد الكبريت، وسُمح لها أيضاً ببيع كميات الانبعاث التي لم تستخدمها لمحطات أخرى تواجه صعوبة في خفض انبعاثاتها من الكبريت.
وقلص نظام الحد الأقصى والتبادل هذا الضرر الناجم عن المطر الحمضي بشكل كبير. لكن كيف كانت التكلفة المالية؟ حذرت المجموعات الصناعية من كارثة. على سبيل المثال، توقعت جماعة “مائدة الأعمال المستديرة” Business Roundtable أن القواعد الجديدة ستكلف 104 مليارات دولار في السنة.
ومع الأخذ في الاعتبار أن القيمة الإجمالية لإنتاج الكهرباء في أوائل تسعينيات القرن الماضي بلغت 200 مليار دولار سنويا تقريبا، كان من المفترض أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار الكهرباء 50% تقريبا. لكن السعر الحقيقي للكهرباء- قياسا على سعر الدولار في عام 2021- واصل انخفاضه في الواقع مع دخول برنامج المطر الحمضي حيز التنفيذ.
والواقع أن كلفة إتباع القواعد الجديدة كانت أقل بكثير مما توقعه حتى أنصار البرنامج. والدرس الكبير هنا هو أنه لا يمكنك الوثوق بالصناعات في تقديم تقييم يُعتمد عليه أو حتى أمين للتأثير الاقتصادي للسياسات التي قد تضر بأرباحها. وهذا يتعارض مع حدس كثير من الناس، بمن فيهم السياسيون.
وقادة ألمانيا قرروا فيما يبدو تصديق الصناعيين الذين يزعمون أنهم لا يستطيعون العيش من دون الغاز الروسي وانتقدوا الاقتصاديين الذين يخالفونهم الرأي. واستطيع فهم هذا الموقف بطريقة ما. فمن المؤكد أن المديرين التنفيذيين الذين يديرون الشركات بالفعل والذين يتعاملون يوميا مع مشاكل العمل أكثر دراية بالواقع الاقتصادي من الأشخاص المهووسين في مراكز الأبحاث. أليس هذا صحيحا؟
لكن هذا الافتراض ثبت بطلانه مرات ومرات. وهذا لسببين. أولا، لدى الصناعيين الذين يخوضون في قضايا السياسة التي تؤثر عليهم حافز كبير للتحدث عن لسان حالهم. فهم يطرحون الأرقام التي تستهدف تخويف الجمهور حتى يتركونهم وشأنهم، بدلا من تقديم تقييمات واقعية.
وأي شخص يقول إن قادة الأعمال المستقيمين الشرفاء لن يفعلوا شيئاً كهذا، تذكر فضيحة «ديزلجيت» وهي عملية احتيال هائلة ارتكبها منتجو السيارات الألمانية لجعل سياراتهم تبدو أقل تلويثاً للبيئة من واقعها.
وثانياً، يعرف المديرون التنفيذيون في صناعة ما الكثير بالفعل عن كيفية عمل الأشياء في أعمالهم في الوقت الحالي. لكن هناك أسباباَ أقل بكثير تدفعنا للاعتقاد بأن لديهم حكماً سليماً عن الطريقة التي قد تسير بها الأمور إذا تغيرت الأحوال، مثل عمليات تكيف وابتكارات قد يتمكنون من القيام بها في مواجهة وضع شديد التغير.
الأمر مشابه لما يحدث في الأزمات المالية. فأساليب وول ستريت أفضل كثيراً جداً من الأكاديميين في تخمين ما سيحدث في العمليات اليومية، لكن عندما يحدث انهيار، عادة ما يبلي الاقتصاديون المطلعون على التاريخ الاقتصادي بلاء أفضل من أولئك المنغمسين في التداول المعتاد.
وتنطبق الدروس هنا على ما هو أبعد من المعضلة الآنية لاستجابة ألمانيا للتطورات الروسية. والاعتبارات نفسها تنطبق على السياسات الأكثر أهمية مثل إجراءات الحد من تغير المناخ التي تبدو تهديداً وجودياً أكثر من أي وقت مضى. ودوماً يزعم قادة الأعمال والسياسيون الذين ينصتون إليهم أن التكلفة الاقتصادية لإجراء مناسب لا يمكن تحملها، فلا تصدقهم.

المصدر: نيويورك تايمز

موضوعات تهمك:

الروبل بين «الصمود» و«التحدي»

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة