أسعار النفط مرة أخرى

محمود زين الدين19 فبراير 2022آخر تحديث :
النفط

أعاذنا الله من الفوضى غير الخلاقة، وألفاظ نعاني تناقضات الظاهرة مثل “الفوضى الخلاقة”، و”الهدم البناء”، و”الحروب السلمية”، “والخيار الوحيد”!

إذا تحركت عناصر أخرى خارج العلاقة بين السعر والكمية المطلوبة، توقعات وحروب ومداخيل، فيقع انتقال من منحنى طلب لآخر أعلى من الأول أو دونه.

لماذا يعتقدون أنّ الحرب في أوكرانيا التي لن يشارك فيها الأوروبيون ولا الأميركان إلّا بالدعم المعنوي واللوجستي سيكون لها تأثير كبير على أسعار النفط؟!

الأشياء لا تبقى على حالها بل إنّ التوقعات بالذات أكبر متغير لا يبقى على حاله لأنّها ناجمةٌ عن حالة إنسانية عاطفية أو اجتماعية أو ادعاء بالخبرة، أو بسبب تجربة سابقة

في أسواق النفط، خاصة هذه الأيام، لا شيء اسمه بقاء كلّ شيء على حاله فالثبات مناقضٌ لطبيعة تطورات الأحداث التي تؤثر عادة أو تقحم على توقعات أسعار النفط.

إذا انقطع إمداد الغاز الروسي (يهدّد الروس أنفسهم بقطعه)، فما ضمانات أميركا لتزويد حلفائها بأوروبا بالغاز البديل؟ هل هي إيران؟ أم قطر؟ وما كلفة هذه البدائل؟

* * *

بقلم: جواد العناني

كلما مضى بنا الزمن تكتسب الأبجديات والمبادئ الأولى التي تعلمناها من حصص مبادئ الاقتصاد معاني جديدة، أو تصبح في عقولنا منقوشة في صخر لا تمحى.
يوم الاثنين الماضي تراجعت أسعار النفط إلى ما بين 92.5 و94.5 دولاراً لكلّ برميل. وإذا اشتريت لمدى أبعد، فإنّ السعر المستقبلي يميل نحو الانخفاض بشكل منتظم، حتى يصل في شهر نوفمبر 2022 إلى حوالي 82 دولاراً للبرميل.
في كلّ مرة، تصدّت دور المتاجرة بالنفط الكبرى، أو المؤسسات البحثية والمختصة لهذا الموضوع، نجد أنّ قدرتها على تحليل ما يجري أعلى بكثير من موهبتها في التنبؤ بما ستكون عليه الأسعار في المستقبل.
ولعلّ السرّ يكمن في المصطلح اللاتيني الذي يحبه الاقتصاديون الذين أغرموا في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين باستخدام مصطلحات لاتينية فهو (ceteris paribus)، وترجمته تقرأ “بافتراض بقاء كلّ شيء آخر على حاله”.
نظرية الطلب
في نظرية الطلب، ميّز الاقتصاديون بين تغير في الكمية المطلوبة، بسبب الحركة على منحنى الطلب نفسه صعوداً أو هبوطاً، وانتقال المنحنى كلّه إلى مستوى أعلى أو مستوى أدنى.
والفرق بينهما أنّ الحالة الأولى لا يتغير فيها إلّا السعر والكمية التي تستجيب لهذا التغير، بافتراض بقاء كلّ العوامل الأخرى ثابتة غير متحرّكة.
أما إذا تحركت عناصر أخرى خارج منظومة العلاقة بين السعر والكمية المطلوبة، مثل التوقعات أو الحروب، أو المداخيل أو الأذواق، فإنّ هذه تسبب انتقالاً من منحنى طلبٍ إلى منحنى آخر أعلى من المنحنى الأول أو تحته.
تقول الحركة على المنحنى نفسه إنّ الشيء الوحيد المتغير هو السعر. أما إذا ألغينا فكرة “بقاء كلّ شيء على حاله” فنحن نتكلم عن تغيرٍ في منحنى الطلب نفسه شكلاً وموقعاً، أو الاثنين.
ولما كبرنا، لم نجد أنّ الأشياء تبقى على حالها على الإطلاق، بل إنّ التوقعات بالذات هي أكبر متغير لا يبقى على حاله، لأنّها ناجمةٌ عن حالة إنسانية قد تكون عاطفية، أو اجتماعية، أو ادعاء بالخبرة، أو بسبب تجربة سابقة، أو لأنّ طفلة لمسؤول ضحكت في وجهه فاستبشر أنّ الدنيا مقبلة عليه، لا مُدْبرة عنه.
يجب أن ندرك أنّ في أسواق النفط، خصوصاً هذه الأيام، لا شيء اسمه بقاء كلّ شيء على حاله، أو “سِتِرس باريباس”. هذا الثبات مناقضٌ لطبيعة تطورات الأحداث التي تؤثر عادة، أو تقحم على توقعات أسعار النفط.
“أوميكرون”
ولقد تعلمنا في السنوات الأخيرة أنّ الأحداث التي تجرى في المنطقة عندنا، وفي العالم من حولنا، تؤثر على تطورات الأسعار، وتوقعات الناس بما سيكون عليه وضع وفرة النفط أو ندرته.
ولزيادة الأمور تعقيداً، فإنّ حدثاً مثل المتحور الجديد “أوميكرون” قد أدّى إلى تهبيط الأسعار على أساس أنّ سرعة انتشاره ستدفع الحكومات إلى وضع قيود مشدّدة على الحركة والانتقال، ما يعني تراجع الطلب على النفط.
وبعد فترة، اكتشف أنّ هذا المتحور ليس خطيراً، وأنّ من الفائدة تخفيف القيود على الحركة والتجمعات والسفر، لأنّ ذلك سيفيد بمواجهة كورونا بناء على مبدأ “مناعة القطيع”. وبمعنى آخر، الطلب على النفط لن يتأثر.
وقد أدّى هذا الأمر إلى رفع الأسعار. وهناك بالطبع، ظروف التوتر في المنطقة والعالم. صحيحٌ أنّ الاقتتال في اليمن، وفي الهجمات المباغتة على أماكن في الامارات والسعودية، قد يفهم أنّها ستقلل من تدفق النفط في البحر الأحمر ومضيق هرمز، إلّا أنّ الأنباء عن احتمالات التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران والمفاوضين الأوروبيين في فيينا ترخي حبل خط الطلب، فتستريح الأسواق وتتراجع الأسعار.
أزمة أوكرانيا
ثم جاء بعد ذلك أثر الأرجوحة (seesaw effect) الناجم عن التوتر في منطقة أوكرانيا، ولست أفهم بدقة حتى هذه اللحظة لماذا يعتقدون أنّ هذه الحرب التي لن يشارك فيها الأوروبيون ولا الأميركان إلّا بالدعم المعنوي واللوجستي سيكون لها تأثير كبير على أسعار النفط.
وهم يخبروننا أنّ أميركا تتوقع هجوماً، لكنّها متمسكة بالحلّ الدبلوماسي، وإن كانت مستعدة وجاهزة بالبدائل القوية المكلفة لروسيا.
وبالطبع، يتحدّثون عن خط الغاز المارّ من روسيا عبر أوكرانيا إلى شمال أوروبا (عبر بحر البلطيق) مهم جداً لروسيا، وإذا انقطع إمداد الغاز الروسي (والذي يهدّد الروس أنفسهم بقطعه أيضاً)، فما هي ضمانات أميركا لتزويد حلفائها في أوروبا بالغاز البديل؟ هل هي إيران؟ أم هل هي قطر؟ وما كلفة هذه البدائل؟ أم ماذا؟
الحقيقة أنّ الأمور ليست واضحة، ولا مقنعة، وهنالك كثير من حوار الطرشان، والكلّ يلعب لعبة عنترة مع أخيه شيبوب، منتظرا من الآخر أن يعترف بالألم ويقول “أخ” أو بالمقولة الإنكليزية “من يرمش أولاً”.
ومع هذا، فإنّ المغامرين والمقامرين والراغبين في تحقيق أرباح سريعة من المضاربات قد يكونون هم أنفسهم من أكبر الخاسرين.
الفوضى غير الخلّاقة
ظروف ارتفاع أسعار النفط والغاز، بافتراض أنّ التوتر والأسباب المفتعلة ستزول قريباً، توحي بأنّ أول العنصرين الأساسيين المؤثرين في أسعار النفط والغاز هو موجة ارتفاع الكلف في العالم ولربما دخول العالم الصناعي، خصوصاً، في موجة “كساد تضخمي” والتي تعيدنا إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي.
أما الظرف الثاني فهو انتظام أسواق النفط والخروج من حالات التشويش الكبرى الناتجة عن الحصارات والمقاطعات الاقتصادية، والتي تؤثر على تدفق النفط عالميا، وعلى بيع كميات كبيرة نسبيا منه في الأسواق غير المنتظمة، كالنفط في إيران وفنزويلا والعراق وسورية، وغيرها.
أعاننا الله على الفوضى غير الخلاقة، والألفاظ التي نعاني من تناقضاتها الظاهرية، مثل “الفوضى الخلاقة”، و”الهدم البناء”، و”الحروب السلمية”، “والخيار الوحيد” وغيرها.

* د. جواد العناني سياسي وخبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء رئيس الديوان الملكي الأسبق.
المصدر| العربي الجديد

موضوعات تهمك:

دلالات تدفق النفط الإيراني إلى الصين

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة