عودة العلاقات بين تركيا و”إسرائيل”: ما الجديد هذه المرة؟

الساعة 2522 نوفمبر 2022آخر تحديث :
تركيا

أعلنت وزارة خارجية الاحتلال عن تعيين القائمة بأعمال السفارة في أنقرة حالياً إيريت ليليان Irit Lillian سفيرة لدولة الاحتلال فيها، بما يُعّدُّ الخطوة الأخيرة في سلسلة خطوات تطبيع العلاقات والتقارب بين الجانبين. كما أعلن وزير الخارجية التركي عن تعيين القنصل السابق في القدس شاكر أوزكان طورونلار Şakir Özkan Torunlar سفيراً لبلاده لدى الاحتلال.

تبحث هذه الورقة في الأسباب التي دفعت تركيا لتحسين علاقاتها مع دولة الاحتلال، وفي جوانب الاختلاف بين هذه المرة وسابقاتها، وترى أن السيناريو الأرجح على المديين القريب والوسيط هو استمرار هذه العلاقات لتلاقي الرغبتين التركية والإسرائيلية في ذلك.

وترى الورقة أن تركيا على ما يبدو ستخفف لهجتها الناقدة للسلوك الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني وأرضه، وأنها قد تطلب من قوى المقاومة (وتحديداً حماس) تخفيف تواجدها وظهورها في الساحة التركية. واستبعدت الورقة أن تتطور العلاقة إلى المستوى الاستراتيجي الذي كان في التسعينيات من القرن العشرين. كما نبهت أن مستوى العلاقات سيتأثر بعدد من العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، وتطورات القضية الفلسطينية.

*****

بقلم: د. سعيد وليد الحاج

مقدمة:

بدأ التوتر في العلاقة بين تركيا ودولة الاحتلال في عهد العدالة والتنمية مع العدوان على غزة سنة 2008، واستمر مع حادثة منتدى دافوس في 2009، ثم أزمة “الكرسي المنخفض” في السنة نفسها، ثم وصلت العلاقات للقطيعة الديبلوماسية سنة 2010 إثر الاعتداء على سفينة “مرمرة الأزرق Mavi Marmara” في عرض البحر، وهي في طريقها لغزة.[2]

عادت العلاقات سنة 2016 مع اتفاق التطبيع، لكنها لم تعد لسابق عهدها، وإنما بقيت في إطار الشد والجذب، لتعود لحالة شبه قطيعة في أيار/ مايو 2018 حين سحبت تركيا سفيرها في دولة الاحتلال، وأعلنت سفير الأخيرة شخصاً غير مرغوب فيه، على أثر التعامل الفظ مع مسيرات العودة، وكذلك نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.[3]

لكن السنتين الأخيرتين حملتا عدة تطورات بخصوص العلاقات بين الجانبين، وخصوصاً لجهة رغبة أنقرة في استعادتها في إطار تحول أوسع في سياستها الخارجية وعلاقاتها بمختلف الأطراف في المنطقة، ليبدأ المسار باتصال هاتفي بين الرئيس التركي ونظيره الإسرائيلي، ويمر بسلسلة من الخطوات من الجانبين تُوِّجت مؤخراً بالإعلان عن خطوة تعيين السفراء.

مسار متكامل:
منذ ما يقرب من عامين، تسعى تركيا لتخفيف حدة الخلاف والاستقطاب وفتح قنوات الحوار مع عدد من الأطراف الإقليمية، التي وقفت منها موقف النقيض خلال العقد الماضي تحديداً (2019-2010)، وفي مقدمتها مصر والإمارات والسعودية. وكانت تركيا قد سعت لشيء من هذا القبيل في 2016 مع حكومة بن علي يلدرم Binali Yıldırım التي رفعت شعار “تكثير عدد الأصدقاء وتقليل عدد الخصوم”، لكنها لم تلقَ في حينه تجاوباً من الأطراف الأخرى إلا بشكل محدود ومؤقت.[4]

بينما في المسار الحالي، أي منذ نهايات 2020، كانت الرغبة مشتركة من مختلف الأطراف، وهو ما أسهم في حالة من التهدئة بين تركيا وهذه الدول والتي ارتقت لحالة من الحوار وفي أحيان نادرة للتنسيق والتعاون، كما في الملف الليبي على سبيل المثال.

التحوّل الأكبر شهدته أنقرة مع أبو ظبي؛ فبعد أن كان الجانبان على طرفَي نقيض تماماً وفي حالة من الخصومة المعلنة بينهما على مدار سنوات عديدة، استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان Recep Tayyep Erdoğan بحفاوة لافتة في 2021/11/24 ولي عهد أبو ظبي في حينه الأمير محمد بن زايد في أنقرة، ووقَّع الجانبان عدة مذكرات تفاهم، ووعدت الإمارات باستثمار مليارات الدولارات الأمريكية في تركيا.[5]

كما استقبل أردوغان ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان بحفاوة بالغة في 2022/06/22، وتحدث عن فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.[6] وفي كلتا الحالتين، الإمارات والسعودية، فقد زار أردوغان البلدين والتقى المسؤولين فيهما، في إشارة واضحة على مرحلة جديدة في العلاقات.

مع مصر، تطورت العلاقات من حالة شبه القطيعة إلى فتح قناة تواصل على مستوى جهاز الاستخبارات في البلدين، ثم فتح قناة ديبلوماسية. وعلى الرغم من تقديم الجانبين ما يمكن تسميته إجراءات حسن نية، إلا أن مسار العلاقات يسير ببطء بينهما لاعتبارات تتعلق باشتراطات الطرف المصري في المقام الأول، ثم بسبب الاصطفافات الإقليمية.[7]

هذا التوجه، الذي يشابه سياسة “تصفير المشاكل” السابقة في الشكل ويختلف عنها في المضمون وبعض التفاصيل، يمكن إعادته لعدد من الأسباب، أهمها:

1. العامل الأمريكي: ذلك أن رغبة إدارة جو بايدن Joe Biden في تخفيف درجة الاهتمام الأمريكي بقضايا المنطقة وأزماتها، وترك إدارتها لحلفائها الإقليميين، وبالتالي تخفيف حدة التوتر بين هؤلاء، كان لها أثر بارز في هذا التوجه لدى عدد من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وفي مقدمتهم تركيا.
2. الاقتصاد: أي معاناة اقتصادات دول المنطقة، وإن بدرجات متفاوتة، لأسباب داخلية وخارجية في مقدمتها الأزمة العالمية وجائحة كورونا والأزمة الروسية – الأوكرانية التي تحولت حرباً.
3. الاستقطاب: تراجعت على مدى السنوات القليلة الأخيرة أهمية وحضور الملفات الخلافية التي تسببت بحالة الاستقطاب بين القوى الإقليمية المختلفة وفي مقدمتها الثورات العربية والانقلاب في مصر وحصار قطر.
4. الاستنزاف: تواجهت القوى الإقليمية المختلفة على مدى السنوات الماضية بأشكال مباشرة وغير مباشرة دون أن يستطيع طرف منها أن يهزم الآخر، بما أدى لحالة استنزاف للجميع والعجز عن تحقيق أهداف واضحة لأي منها.
5. الانتخابات: في الخصوصية التركية، فإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المنتظرة في حزيران/ يونيو 2023 تمثل أولوية للرئيس أردوغان، الذي يسعى لأن تُنظم في أفضل الظروف، ومن ذلك تهدئة ملفات السياسة الخارجية بما يمكن أن يخفف الضغوط على أنقرة، ويسهم في جلب الاستثمارات الخارجية لها.
6. التثمير (جني الثمار): حققت تركيا خلال السنوات الماضية اختراقات في بعض الملفات المهمة والصراعات الإقليمية مثل سورية والعراق وليبيا وجنوب القوقاز، ثم انتقلت لمرحلة تحويلها إلى مكاسب سياسية، الأمر الذي يتطلب حالة من التهدئة النسبية.

تشترك فكرة تطوير العلاقات بين تركيا والاحتلال مع مسار تطبيع أنقرة علاقاتها مع الدول العربية المذكورة، وبعض الأطراف الأخرى مثل اليونان وأرمينيا، في بعض الأسباب. لكنها تختلف عنها كذلك من عدة جوانب، أولها تباين أسباب الخلاف بينهما والمرتبط هنا بشكل أساسي بالقضية الفلسطينية، بما في ذلك نقل السفارة للقدس وسياسات التهويد والاعتداءات المتكررة على غزة والضفة، ثم نظر تركيا للعلاقات مع الاحتلال من زاوية تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، وتخفيف ضغوط اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ضدها.[8]

خطوات متدرجة:
بالتوازي مع مسار التهدئة والحوار والتقارب مع عدد من الأطراف الإقليمية، أبدت تركيا في أكثر من مناسبة رغبتها في مسار مشابه مع دولة الاحتلال، لكن بدا أن الأخيرة لم تتحمس للفكرة، ورأت أن الأمر لا يعبر عن رغبة حقيقية في تحسين العلاقات، بل عن مناورة تكتيكية من الرئيس التركي بهدف تحسين فرصه في الانتخابات المقبلة.[9]

أولى محطات التواصل بين الجانبين كانت اتصالاً هاتفياً بين أردوغان ورئيس دولة الاحتلال إسحق هيرتزوج Isaac Herzog في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021،[10] وهو اتصال تكرر بينهما لاحقاً عدة مرات، منها تعزية أردوغان هيرتزوج بوفاة والدته،[11] ومنها اتصال تضامني على هامش عمليات للمقاومة الفلسطينية في تل أبيب وصفها أردوغان في 1/4/2022 بـ”الإرهابية” معرباً عن “تعازيه لعوائل الضحايا”.[12] كما حصلت اتصالات هاتفية مع كل من نفتالي بينيت Naftali Benet،[13] ويائير لابيد Yair Lapid،[14] في فترة تولي كل منهما منصب رئاسة الوزراء، قبل أن يلتقي أردوغان الأخير على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2022.[15]

خلال هذه الفترة، أحبطت السلطات التركية محاولة إيرانية لاغتيال رجل أعمال تركي – إسرائيلي على صلة بقطاع الصناعات الدفاعية، فيما بدا رداً على عمليات الاغتيال التي نفذها الموساد Mossad في الداخل الإيراني، وهي عملية حصل فيها تواصل وتعاون بين جهاز الاستخبارات التركية والموساد الإٍسرائيلي.[16] وتكرر إحباط السلطات التركية عمليات يقف خلفها إيرانيون على أراضيها خلال 2022،[17] كما أوقفت خلية إيرانية كانت تخطط لاغتيال شخصيات إسرائيلية، وفق وسائل إعلام.[18]

التواصل بين الجانبين وصل ذروته بزيارة رئيس دولة الاحتلال هيرتزوج لتركيا في آذار/ مارس 2022 واستقباله بحفاوة كبيرة.[19] كما زار وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو Mevlüt Çavuşoülu دولة الاحتلال في أيار/ مايو 2022،[20] وَعُدَّ ذلك تمهيداً وإعداداً لزيارة قد يقوم بها أردوغان لتل أبيب قبل نهاية العام.[21] وفي حزيران/ يونيو 2022، زار وزير خارجية الاحتلال لابيد أنقرة والتقى نظيره التركي وتحدثا في مسألة تطوير العلاقات.[22] وأعلن جاويش أوغلو أن الجانبين قد توافقا على تطوير العلاقات لتعود لسابق عهدها،[23] ثم جاءت محطة التوافق على تبادل السفراء؛[24] أعلن الاحتلال أولاً عن اسم سفيره، وهي القائمة بالأعمال السابقة في سفارة أنقرة إيريت ليليان،[25] ثم أتى تعيين سفير تركي في تل أبيب ضمن حملة تعيينات في السلك الديبلوماسي التركي في تشرين أول/ أكتوبر 2022، ووقع الاختيار على القنصل السابق في القدس شاكر أوزكان طورونلار.[26]

وفي 2022/10/27، زار وزير الدفاع الإسرائيلي بني جانتس Benny Gantz أنقرة والتقى نظيره التركي خلوصي أكار Hulusi Akar في لقاء هو الأول من نوعه منذ سنوات عديدة، وينبئ عن عودة التواصل الأمني والعسكري بين الطرفين. وقال الوزير التركي إن الزيارة “تعزز التعاون والحوار الثنائي بين البلدين، وتسهل حلّ بعض القضايا العالقة، خاصة قضية فلسطين”، وإن التعاون في مجالات الدفاع والأمن والطاقة بينهما “سيؤدي لتطورات مهمة تتعلق بالسلام والاستقرار الإقليميين”.[27] وفي تفصيل لم يكن مخططاً مسبقاً، استقبل أردوغان الوزير الإسرائيلي (بني جانتس) بحضور نظيره التركي، وهو ما نظر له على أنه تأكيد من تركيا على الاهتمام بالزيارة على مستوى الرئاسة، وكرسالة بعدة اتجاهات من بينها بطبيعة الحال “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية.

وإضافة للعلاقات البينية والملفات الإقليمية، كان الإعلام العبري قد ذكر إن جانتس سيتحدث مع المسؤولين الأتراك بخصوص تواجد قيادات من حركة حماس على الأراضي التركية طالباً إنهاء هذا الأمر الذي تعارضه “إٍسرائيل”.[28]

المختلف:
ليست هذه المرة الأولى التي تعود فيها العلاقات بين تركيا ودولة الاحتلال بعد تراجع، إذ إن مسار العلاقات بين الجانبين يتّسم بالتذبذب منذ بداياته في 1949. ولم تكن فترة حكم العدالة والتنمية في تركيا استثناءً على هذا الصعيد، فقد قطعت العلاقات الديبلوماسية بينهما إثر الاعتداء على سفينة “مرمرة الأزرق” في 2010 ثم عادت في 2016 لتتدهور مرة أخرى في 2018 مع استشهاد العشرات في مسيرات العودة في غزة على أيدي قوات الاحتلال ونقل السفارة الأمريكية للقدس.

بيد أن عودة العلاقات الديبلوماسية بينهما هذه المرة تتمايز عن المرات السابقة بعدة أمور، في مقدمتها:

1. أن تطوير العلاقات مع الاحتلال لا يأتي هذه المرة بشكل منفرد كما في السابق، وإنما في إطار مسار متكامل لتحسين علاقات أنقرة مع عدد من الأطراف الإقليمية، مثل مصر والسعودية والإمارات والبحرين وحتى اليونان وأرمينيا، ولأسباب تتخطى العلاقات المباشرة مع الاحتلال أو حيثيات القضية الفلسطينية وتطوراتها.
2. أن عودة العلاقات الديبلوماسية وتبادل السفراء أتت في ظلّ حالة عدم استقرار لدى الاحتلال الذي يخوض انتخابات مبكرة جديدة، هي الخامسة خلال السنوات الثلاث الأخيرة. الأمر الذي يوحي بأن تركيا غير مهتمة كثيراً بشكل الحكومة الإسرائيلية المقبلة وتوجهاتها، أو أنها تحاول أن تستبق أي تغير في الحكومة أو الأمرين معاً.
3. أن مسار عودة العلاقات أتى في مدة زمنية شهدت اعتداءات متكررة على الفلسطينيين، وتحديداً في قطاع غزة، وفي مقدمتها ما أسماه الاحتلال عملية “الفجر الصادق” (قابلته حركة الجهاد بمعركة “وحدة الساحات”) الذي بدأه الاحتلال في غزة ضدّ حركة الجهاد الإسلامي في آب/ أغسطس 2022، وقبله ما أسماه الاحتلال معركة “حارس الأسوار” في 2021 (قابلته المقاومة الفلسطينية بمعركة “سيف القدس”)، وهو أمر له دلالته من حيث مدى ارتباط علاقات تركيا مع الاحتلال بسياساتها تجاه الفلسطينيين.
4. كما أن عودة العلاقات بين تركيا والاحتلال أتت بعد ما سمي بـ”اتفاقات أبراهام Abraham Accords” بين الأخير وعدد من الدول العربية، وهي الاتفاقات التي شجبتها أنقرة في حينه وقالت إنها “خيانة للشعب الفلسطيني من أجل مصالح ضيقة”.
5. عادت العلاقات بين أنقرة والاحتلال هذه المرة بدون أن يستجيب الأخير للشروط التركية الخمسة التي كان أعلنها وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو وفي مقدمتها؛ وقف الاعتداءات على الفلسطينيين، والعودة لمباحثات “السلام”، ووقف الإجراءات التي تستهدف تغيير الوضع القائم في القدس، على عكس اتفاق تطبيع العلاقات في 2016 والذي استجاب للشروط التركية الثلاثة في حينها وإن بدرجات متفاوتة. كما أن أنقرة لم تستجب للشروط أو المطالب الإٍسرائيلية المرتبطة بعلاقاتها مع حركة حماس تحديداً.

السيناريوهات المتوقعة:
في ضوء ما سبق، فإن العلاقات التركية – الإسرائيلية أمام أحد احتمالين على المديين القريب والمتوسط:
الأول: العودة للقطيعة الديبلوماسية؛ وهو سيناريو مستقبلي قد يدفع باتجاهه فوز ائتلاف بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu في انتخابات الكنيست و/أو سياسات الاحتلال ضدّ الفلسطينيين. ولكننا نرى بأنه احتمال ضعيف وغير مرجح. فمن جهة لم يصدر عن نتنياهو ما يفيد بأنه ضدّ عودة العلاقات الديبلوماسية مع أنقرة أو أنه سيتراجع عن الاتفاق المعلن.

صحيح أن الحكومة التركية سبق وأن حمّلت حكومته مسؤولية تراجع العلاقات بين الجانبين، وبالتالي كان نزوله عن سدة الحكم بعد انتخابات 2021 عاملاً مساعداً في مسار تطوير العلاقات، وصحيح أن أنقرة لن تكون سعيدة بعودته للحكم وتفضل الائتلاف المنافس له، ومن دلالات ذلك استقبال أردوغان بنفسه جانتس قبل الانتخابات بأيام، إلا أن الجانبين التركي والإٍسرائيلي قد استبقا الانتخابات بتعيين السفراء، وليس لدى نتنياهو سبب قوي للتنصل من ذلك والعودة عنه.

الأهم، أن نتنياهو يعود للحكم في ظروف مختلفة تماماً عن الحقبة التي قاد الحكومة فيها سابقاً. فالحرب الروسية – الأوكرانية الدائرة لا تترك الكثير من مساحات المناورة أمام حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية وفي مقدمتهم دولة الاحتلال، وعلى الرغم من أن نتنياهو كان يتمتع بعلاقات ودية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين Vladimir Putin، إلا أن استمرار العلاقات بالمستوى نفسه لا تبدو ممكنة، ومن ذلك العلاقات مع تركيا.

ومن جهة ثانية، لا يبدو أن سياسات الاحتلال ضدّ الفلسطينيين ستكون مانعاً لتطور العلاقات أو سبباً لعودتها نحو القطيعة. ففي المقام الأول، عادت العلاقات وعيّن السفراء على الرغم من سياسات إسرائيلية واضحة تجاه القدس والمسجد الأقصى، وعلى الرغم من عدوانين كبيرين على قطاع غزة في 2021 و2022، واستباحة مستمرة للضفة الغربية المحتلة. كما أن التصريحات التركية من رأس هرم السلطة السياسية تحدثت عن الفصل بين العلاقات مع الاحتلال وبين سياساتها تجاه الفلسطينيين. ولذلك، وفي غياب أي تطورات استثنائية فيما يخص القضية الفلسطينية، ليس من المتوقع أن تؤدي سياسات الاحتلال المعتادة والمستمرة، على الرغم من فظاظتها، إلى تراجع العلاقات الديبلوماسية أو سحب السفراء كما حصل سابقاً.

الثاني: صمود مسار تطوير العلاقات واستمراره، وهو الخيار الذي نرجحه في المدى المنظور. فهناك رغبة تركية واضحة بهذا الاتجاه، تلاقت مع رغبة إسرائيلية بتطوير العلاقات في هذه الفترة. كما أن الفروقات الواضحة بين عودة العلاقات بين الجانبين هذه المرة عن سابقاتها تقول إن الأخيرة أكثر قدرة على الصمود والاستمرار، بالإضافة إلى السياق الدولي والإقليمي المرتبط بالحرب الروسية – الأوكرانية، مضافاً لكل ذلك استبعاد نزوع تركيا نحو خطوة تصعيدية مع دولة الاحتلال قبيل الانتخابات منتصف العام المقبل.

خلاصة وتوصيات:
في الخلاصة، فإن تقارب تركيا مع الاحتلال يأتي في سياق أوسع منه ويشمل تغيراً في بوصلة السياسة الخارجية التركية ككل، وقد وصل الجانبان لمحطة تبادل السفيرين، على الرغم من كل العوائق والعقبات الماثلة وفي مقدمتها الشروط المتبادلة بينهما.[31] كما أن مسألة تطوير العلاقات مع “إسرائيل” لا تواجه معارضة داخلية حقيقية، لا على الصعيد الشعبي ولا الحزبي، إذ يقتصر التحفظ على الأمر على شرائح بعينها في مقدمتها المهتمون بقضية “مرمرة الأزرق” وبعض المحافظين، خصوصاً وأنها تُقدَّم في صورة مصلحة قومية تركية تتعلق بأمن الطاقة.[32]

ويشير كل ما سبق إلى الاهتمام الذي توليه أنقرة لملف تطوير العلاقات مع الاحتلال في هذه الفترة، بما في ذلك مبادرتها هي للتواصل، وإصرارها، ولقاء أردوغان مع جانتس على الرغم من عدم ترتيب ذلك بشكل مسبق، والمراحل العديدة التي مرت بها العلاقات في الشهور القليلة الماضية.

كما أن اختيار السفير التركي يحيل إلى المعنى ذاته؛ ذلك أنه إضافة للسيرة الذاتية الغنية للسفير الجديد طورونلار من الناحيتين النظرية والعملية، فإن عمله السابق كنائب للمدير العام لقسم الشرق الأوسط ونائب المدير العام للشؤون الأمنية في وزارة خارجية بلاده، وعضويته في الهيئة الاستشارية للسياسة الخارجية، إضافة لعمله قنصلاً في القدس وسفيراً لدى فلسطين في الفترة 2010–2014، كل ذلك يشير بوضوح إلى مدى اهتمام أنقرة بالأمر من زوايا عدة.[33]

ومع جمع كل ذلك جنباً إلى جنب مع سياقات اختلاف تطور العلاقات بين الجانبين هذه المرة عن المرات السابقة، يمكن الخلوص إلى نتيجة مفادها أن مسار تطور العلاقات هذه المرة مرشح للصمود والاستمرار أكثر، وبالتالي أن يكون أطول عمراً من سابقيه، بل وربما يميل مع الوقت للتعمق أكثر فأكثر. وربما يكون من مؤشرات ذلك حديث بعض الأوساط عن احتمال زيارة أردوغان لدولة الاحتلال في المستقبل القريب.

أحد أهم الأسئلة التي تطرح عادة حول العلاقات التركية – الإٍسرائيلية هو مدى انعكاسها على موقف أنقرة من القضية الفلسطينية، وهو الأمر الذي ينفيه المسؤولون الأتراك الذين يدّعون أن تحسن العلاقات سيصب في خانة دور تركي أقوى في نصرة الفلسطينيين.[34]

لا يتوقع أن يحصل تغير جذري في موقف تركيا من القضية الفلسطينية بشكل عام، فهي تدعو لحل الدولتين وذلك مما لا يشكل مشكلة لدى الإسرائيليين، وربما تسعى لمبادرة ما بين الجانبين على صعيد مفاوضات بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية أو على صعيد صفقة لتبادل الأسرى بين الاحتلال والمقاومة.[35]

وعلى الرغم من ذلك، فإن عودة العلاقات بين الطرفين في ظلّ الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على غزة والضفة بحدّ ذاته تغير ملموس بخصوص القضية الفلسطينية وليس أمراً هامشياً، بل يشي بأن تركيا باتت تفصل بين علاقاتها مع الاحتلال وممارسات الأخير ضدّ الفلسطينيين، وهو ما تؤكده بعض التصريحات الرسمية التركية.[36]

أما ما يتعلق بعلاقات تركيا مع حركات المقاومة الفلسطينية وخصوصاً حركة حماس، فذلك مما يجدر وضعه تحت المجهر وفحصه في الفترة المقبلة، إذ هي في بؤرة اهتمام الاحتلال كما أنها تصدَّرت شروطه لتحسين العلاقات، ووردت ضمن مطالبه من أنقرة على لسان كل المسؤولين الإسرائيليين الذين زاروا تركيا مؤخراً.

وهو ما يستدعي على الفصائل الفلسطينية أن تتعامل مع الظرف المستجد بما يستحقه، بما في ذلك تخفيف مستوى تواجدها على الأراضي التركية، وتجنب أي سياسات أو تصريحات قد يستغلها الاحتلال للتحريض على وجودها في تركيا، إذ ما زال يكرر مطالباته للأخيرة بطرد قيادات من حماس يدعي وجودها وعملها من على الأراضي التركية، استغلالاً لرغبة أنقرة في عدم التشويش على مسار التقارب معها.

ومن جهة ثانية، يجدر بقوى المقاومة أن تعمل على المدى البعيد على إيجاد خيارات إضافية لتواجدها القيادي، وعدم الاكتفاء بالدول التي تتواجد بها حالياً ومن بينها تركيا. ولكن المسار الاستراتيجي الأهم الذي ينبغي السعي به هو التأكيد على المشتركات مع تركيا من باب أن دولة الاحتلال كتمظهر للمشروع الصهيوني خطر على المنطقة بأسرها ومن بينها تركيا، بما يجعل المقاومة الفلسطينية حائط الدفاع الأول ليس عن فلسطين والعالم العربي فقط وإنما تركيا نفسها كذلك.

وبالتالي، ختاماً، لئن كان من المستبعد عودة العلاقات بين تركيا والاحتلال إلى سابق عهدها من التحالف الاستراتيجي الذي ساد في تسعينيات القرن الماضي، إلا أنه من الصعب كذلك توقع بقائها في مساحة الحد الأدنى وعدم القطيعة التي سادت خلال الفترة 2016–2018. إذ إنه مما يدفع لعلاقات أكثر عمقاً بينهما، عدا عن العوامل المرتبطة بالعلاقات البينية بشكل مباشر، الحرب الروسية – الأوكرانية والعامل الإيراني وغيرهما. لكن المستوى الذي يمكن أن تصل له العلاقات غير واضح كذلك، إذ إنه سيتأثر بكل ما ذكر من عوامل سابقة بالإضافة إلى تطورات القضية الفلسطينية نفسها وأي أحداث غير متوقعة في المنطقة.

*د. سعيد وليد الحاج باحث في الشأن التركي

المصدر: الزيتونة للدراسات والاستشارات- بيروت

موضوعات تهمك:

أردوغان “يتوازن” إقليمياً.. بالورقة الإسرائيلية؟

تركيا و”إسرائيل”: هل يكتمل مسار تطوير العلاقات؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة