الفيروس ليس عدواً

محمود زين الدين27 ديسمبر 2022آخر تحديث :
الفيروس

سرّ قوة الفيروس ليس في عدده فقط، بل في كونه يقتل من الكائنات الحيّة أكثر من أي حيوان مفترس، وهو يهاجمها جميعاً.
لو لم تكن هذه الفيروسات موجودة ماذا كان قد حلّ بالبحار والمحيطات؟! وكيف كان يمكن للكائنات البحرية الأخرى أن تعيش؟
القاعدة العلمية المعتمدة عالمياً أن كل كائن له فيروس يهاجمه ويتولى عملية ضبط نموّه وانتشاره وتحديث دفاعاته الذاتية، تجهيزاً وتطويراً!
انتشار الأوبئة جزء من عملية تطور تجري عبر تأهيل الكائنات الحية لتحديث وتطوير دفاعاتها الذاتية والإنسان ليس استثناء، لذا ليس الفيروس عدواً له.
أهم وظيفة بنّاءة للفيروسات أنها في عملية التطور المستمرة تنقل المعلومات الوراثية وتتم هذه بالتداخل مع الخلايا الحيّة. ويعتقد أن ما بين 8% و25% من الشفرة الوراثية للإنسان تعود أصولها للفيروسات!
* * *

بقلم: محمد السماك
منذ انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19) مات بسببه أكثر من 4 ملايين إنسان، وأصيب أكثر من 117 مليوناً آخرين. عطّل انتشارُ الفيروس الأعمالَ، ونشرَ البطالةَ، ووسع دائرةَ الفقر والعوز، وأصاب اقتصاديات العالَم بشلل لم يُعرف له مثيل حتى أثناء الحروب الكبرى.. ومع ذلك فإن الفيروس ليس عدواً.
تاريخياً، ما كان للفتوحات الأوروبية في الأميركيتين أن تتحقق لولا الفيروس، فقد حمل المستكشفون الأوائلُ معهم فيروسات الجُدري والحصبة والإنفلونزا ونشروها بين السكان الأصليين فقضت على أكثرهم، واستسلم الباقون «لحملة الموت الزؤام».
لعبت الفيروسات دوراً أساسياً كذلك في التكوين الإنساني. والفيروسات موجودة في كل مكان. وقد بينت دراسةٌ علميةٌ أجريت على مياه البحر وجودَ 200 ألف سلالة فيروسية.
وتعترف الدراسة أن العدد ربما يكون أكبر. وتظهِر دراسةٌ أخرى أُجريت على ليتر من مياه البحر، وجودَ مائة مليار وحدة فيروس في هذا الليتر من الماء.
وتقول الدراسة أيضاً إن في كل كيلوغرام واحد من التراب، يزيد عدد الفيروسات فيه على عشرة أضعاف عددها في ليتر الماء. أي ما يعادل ألف مليار وحدة. أما مجموع الفيروسات في العالم كله، فإن العلماء يقدرونه بحوالي 10 وأمامها 31 صفراً. ويزيد هذا الرقم على عدد كل أنواع الكائنات الحية الأخرى مجتمعة على كوكب الأرض.
توجد مئات مليارات النجوم والكواكب في مجرة درب التبانة وحدها. وتوجد مليارات المجرات في الكون الذي نعرفه. غير أن الفيروسات التي تعيش على سطح المياه يزيد عددُها على عدد كل هذه النجوم والكواكب.
ويكمن سرّ قوة الفيروس ليس في عدده فقط، ولكن في كونه يقتل من الكائنات الحيّة أكثر من أي حيوان مفترس، وهو يهاجمها جميعاً.
إلا أنه من خلال هذا الهجوم تنطلق عملية التطور الذاتي لهذا الكائن، إنساناً كان أم حيواناً. ويحدث هذا الأمر في البحار والمحيطات أيضاً حيث تتكاثر نباتات وحيوانات صغيرة (وحيدة الخلية) تعيش عليها الأسماك. ويتولى الفيروس قتل خُمس هذه الحيوانات كل يوم. من هنا السؤال: لو لم تكن هذه الفيروسات موجودة ماذا كان قد حلّ بالبحار والمحيطات؟! وكيف كان يمكن للكائنات البحرية الأخرى أن تعيش؟
تقول القاعدة العلمية (والمعتمدة عالمياً) إن كل كائن له فيروس يهاجمه ويتولى بشكل أو بآخر عملية ضبط نموّه وانتشاره وتحديث دفاعاته الذاتية، تجهيزاً وتطويراً! ومن أجل ذلك فإن انتشار الأوبئة هو جزء من عملية التطور التي تجري من خلال تأهيل الكائنات الحية، بحيث تتمكن من تحديث دفاعاتها الذاتية وتطويرها. والإنسان ليس استثناء، لذا ليس الفيروس عدواً له.
ولعل أهم وظيفة بنّاءة للفيروسات هي أنها في عملية التطور المستمرة، تنقل المعلومات الوراثية. وتتم هذه العملية من خلال التداخل مع الخلايا الحيّة. ويعتقد العلماء أن ما بين ثمانية وخمسة وعشرين بالمائة من الشفرة الوراثية للإنسان تعود أصولها إلى الفيروسات!
حتى دماغ الإنسان يتأثر تطوره بهذا الأمر أيضاً. وقد بدأت هذه العملية منذ أن بدأت الحياة على الأرض قبل حوالي أربعة مليارات عام. وهي مستمرة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. إذ طالما أن الحياةَ مستمرةٌ فإن دور الفيروسات مستمر أيضاً. ولذا فالفيروس ليس كائناً، إذ لا إرادة له ولا مهمة. إنه ليس حتى جرثومة، ولا شيئاً. إنه عملية. والعملية هي التكاثر في الخلية الحيّة.
لا يعني ذلك الاستسلام للفيروس. لقد قضى فيروس الجدري على 300 مليون إنسان في القرن العشرين. لكن العلماء وجدوا لقاحاً للتخلص من آثاره المدمرة. وفتك فيروس شلل الأطفال بالإنسانية أيضاً، وقد بدأت شمسه بالمغيب. وعرفت الإنسانية أوبئةً عديدة أخرى كالطاعون الأسود في أوروبا، إلا أن هذه الفيروسات القاتلة كلها هي في الوقت ذاته أدوات للتنوع الغني الذي نعرفه في الحياة.
لقد أثبت الإنسانُ بتطوره العلمي أنه قادرٌ على ليّ ذراع هذه الفيروسات والتحكم بقدراتها وإمكاناتها. حدث ذلك في الماضي، ويحدث اليومَ أيضاً. صحيح أن فيروس كورونا قتل وأصاب ملايين البشر، إلا أن الإنسان استطاع بعلمه أن يكبح جماحَه وأن يلوي ذراعه. واستطاع أيضاً، وهذا الأهمّ، أن يتعرف أكثر وأعمق على نفسه من خلال مكافحته له والتغلب عليه.

*محمد السماك كاتب لبناني وناشط في المجتمع المدني وحوار الأديان

المصدر: الاتحاد – أبو ظبي

موضوعات تهمك:

الجمعة البيضاء ليست بيضاء أبدا!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة