من الأنوار إلى الاستعمار

محمود زين الدين7 ديسمبر 2021آخر تحديث :
الاستعمار

الاستعمار صفحةٌ سوداء في تاريخ الغرب تُفسد صورته وصورة فتوحاته المدنيّة، الحديثة منها والمعاصرة، لولا أنّ في رصيده صفحاتٍ أخرى سوداء.

انطلقت موجات الاستعمار الأولى أواخر عصر الأنوار نهاية القرن 18 ويمثّل قطيعةً كاملة مع تراث الأنوار بأفكاره وقيمه الإنسانيّة ليدشّن عهداً جديداً بأوروبا والعالم.

صّفحات تاريخ الغرب السّوداء لها أسباب وعِلَل بمدنيّة أوروبا والغرب ستستمرّ في توليد ظواهر شبيهة تمرغ وجْه وشرفِ كلِّ ما كان بديعاً وبهيّاً وإنسانيّاً بتاريخ أوروبا.

عهد الاستعمار انتصار الغريزة والجشع على العقل والمصالح على المبادئ وانتصار الرّأسمال على الإنسان والاستعبادِ على الحرّية والاستغلالِ على العدل الاجتماعيّ والإنسانيّ.

* * *

بقلم: عبد الإله بلقزيز

لا يَحْمِل الاستعمار شيئاً من مواريث عصر الأنوار، رغم أنّ موجاته الأولى انطلقت في الهزيع الأخير من ذلك العصر نهاية القرن الثّامن عشر. لقد أتى، في الواقع، يمثّل قطيعةً كاملة مع كلّ تراث الأنوار، بأفكاره الكبرى وقيمه الإنسانيّة، ليدشّن عهداً جديداً في أوروبا والعالم: عهد انتصار الغريزة والجشع على العقل؛ وعهد انتصار المصالح على المبادئ، وانتصار الرّأسمال على الإنسان، والاستعبادِ على الحرّية، والاستغلالِ على العدل الاجتماعيّ والإنسانيّ.

للاستعمار جذور أخرى ليس منها تراث الأنوار، وأمتنُ جذوره تلك الرّأسمالُ: هذا الطّارئُ الجديد على حياة أوروبا الذي غذّى نزعة الجشع والرّبح في بعض طبقاتها الاجتماعيّة؛ ودَفَع بها إلى البحث عن فُرصِهِ خارج مجالها القوميّ متوسّلةً، في سبيل ذلك، القوّةَ العمياءَ والغزو. وإذا كانت هناك من جذورٍ أبعد لهذه السّيرة الاستعماريّة، المرتكزة إلى محوريّة الرّأسمال، فمَكْمَنُها في بعض أطروحات اللّيبراليّة التي قدَّستِ الملْكيّة الخاصّة، ونظرت إلى الحقّ فيها بحسبانه من آكَدِ الحقوق التي على الدّولة حمايتها.

وتلك كانت الفكرة التي كرّسها جون لوك، وردّدها عنه ليبراليّو القرن الثّامن عشر. وليس ذلك من تراث الأنوار في شيء إلاّ في تأويلات مُغْرِضة تَخْلط بين اللّيبراليّة والتّراث الديّمقراطيّ والإنسانويّ.

على أنّ الاستعمار نفسَه ليس لحظةً شاذّة في التّاريخ الأوروبيّ، ولا هو مسارٌ انحرافيٌّ فيه. إنّه تعبير عن وجْهٍ آخر لأوروبا، غير وجهها الأنواريّ؛ بل هو الثّمرة المُرّة لمسار دشَّنتْهُ الرّأسماليّةُ فيها قبل ميلاده (الاستعمار) بما يزيد على القرن ونصف القرن. وقد يكون توسُّعُ نطاق سيطرة العلاقات الرّأسماليّة للإنتاج، في أوروبا القرن السّابع عشر، أنجز مهمّةً ثوريّة في التّاريخ الأوروبيّ (تقويض نظام الإنتاج الإقطاعيّ)، وأدخل طبقةً جديدة إلى المعترك – هي البورجوازيّة الصّاعدة – حاملةً برنامجاً ثوريّاً في وجه تحالف الإقطاع والكنيسة والمَلَكيّات الاستبداديّة المطلقة؛ وقد يكون وفّر لها القاعدةَ الماديّة لإحداث التّغيير السيّاسيّ الذي تطلّعت إليه (الثّورة الفرنسيّة ونظائرها الأوروبيّة وعمليّات التّوحيد القوميّ)…، غير أنّ ذلك كلّه لم يكن ليُخفيَ ما تَحْمله الرّأسماليّة من تهديدٍ ماديّ لإنسانيّة الإنسان؛ في مركزها الأوروبيّ، كما في الهوامش الخارجيّة التي قادت إلى الزّحف الاستعماريّ عليها لاستغلالها.

وكما دشّنتِ الرّأسماليّةُ طوراً جديداً من الاستغلال الاجتماعيّ لقوّة العمل استغلالاً استحوذت فيه على فائض القيمة لتعظيم أرباحها، وكانت الطّبقاتُ الأوروبيّة الكادحة ضحيّتَه، كذلك دشّن الاستعمار – بما هو حامِلٌ سياسيّ للرّأسمال – طوراً جديداً من الاستعباد والاستغلال: استعبادُ بلدان المركز (الأوروبيّ) لشعوب المستعمرات، واستغلال لقواها البشريّة ونهب لثرْواتها. ولم تكن حركةُ الاستعمار هذه لتنشأ وتَشْرَع في الزّحف على العالم الواقع «ما وراء البحار»، لو لم تكن حركةُ الرّأسمال قد بلغت – في مراكزها- طورَ استنفاد إمكانات التّوسُّعِ في الاستغلال والرّبح داخل الحدود القوميّة الأوروبيّة. وهكذا لم يكن الاستعمار أكثر من تعبيرٍ عن استجابة الطّبقات السّياسيّة الحاكمة لمصالح طبقاتها المالكة للرّأسمال ولوسائل الإنتاج، قصد فتح منافذَ خارجيّة جديدة لها للاستغلال والرّبح ونَهْبِ ثروات شعوب غير قادرة، في ذلك الإبّان، عن الدّفاع عن أوطانها ومقدَّراتها من جيوشٍ استعماريّة جرّارة جيّدةِ التّسليح.

وإذِ اندفع الاستعمار يؤدّي مهمّته لخدمة رسالة النّهب والاستغلال، ويقيم إداراته العسكريّة الغازية في البلدان المستعمرة لإخماد ثوراتها ضدّه، وتسهيلاً لعمل قوى الرّأسمال، كان يغطّي جريمته بدعاوى مزعومة، يشرعن بها نفسَه ويلمّع بها وجهه، من قبيل أدائه رسالة «تمدين» مجتمعات المستعمرات و«تأهيل» أبنائها كي تصبح قادرةً على إدارة شؤونها على قواعد النّظم الحديثة في الاقتصاد والسّياسة والإدارة…إلخ ! وكان واضحاً أنّه يجرّب، بمثل تلك الدّعاوى، أن يخفيَ الوجه القبيح لأوروبا بوجهها النيّر (الأنواريّ). وهو ما لم يَنْطل على تلك الشّعوب ونُخَبِها: سواء التّقليديّة منها أو الحديثة التي تكوّنت في مدارسه وجامعاته وتلقّنت مبادئ الثّقافة الأوربيّة وقيمها. وآيُ ذلك أنّها سرعان ما حاربتْه بتوسُّل تلك المبادئ والقيم.

كان يمكن القول إنّ الاستعمار صفحةٌ سوداء في تاريخ أوروبا والغرب تُفسد صورتهما وصورة فتوحاتهما المدنيّة، الحديثة منها والمعاصرة، لولا أنّ في رصيده صفحاتٍ أخرى سوداء، ولولا أنّ لهاتيك الصّفحات السّوداء أسباباً وعِلَلاً في مدنيّة أوروبا والغرب ستستمرّ في توليد ظواهر أخرى شبيهة، وفي تمريغ وجْه – وشرفِ – كلِّ ما كان بديعاً وبهيّاً وإنسانيّاً في تاريخ أوروبا.

* د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي

المصدر| الخليج

موضوعات تهمك:

هجرة العالم: جسور الإنسانية وأسوار الطغيان!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة