متى فلسطين؟

إلياس خوري20 نوفمبر 2018آخر تحديث :
متى فلسطين؟

متى فلسطين؟

يجب ألا نسمح لمشهد العقيد في الأمن الفلسطيني أحمد أبو الرُّب، وهو ينحني لتغيير عجلة سيارة عسكرية إسرائيلية قرب قرية سوسية في الضفة الغربية، بأن يحجب الصورة الفلسطينية التي صنعتها غزة. فقائد شرطة الخليل نسي أننا نعيش في عصر الصورة، وفاته أن الانحناء، مهما كان سببه، آن له أن ينتهي.

لعبة الانحناء التي احتلت المشهد، بعد هزيمة الانتفاضة الثانية، تحولت من حيلة إلى فخ سقط فيه المتحايلون. وفي الفخ صارت فلسطين هامشاً تتلاعب به القوى الإقليمية، ولم نعد ندري أين تقع فلسطين؟ هل هي دولة تحت الاحتلال، أم هي بلدية تحت الاحتلال؟ أم هي انحلال تحت الاحتلال؟ ولولا صراخ الناس في غيتو غزة ودمهم المسفوك لصدّقت الولايات المتحدة وحلفاؤها من ملوك النفط والدم أن صفقة القرن ستعلن ولادة الحلف الجهنمي بين النظام العربي وإسرائيل، وهو حلف يتحجج بالعداء لإيران كي يخبئ هدفه الحقيقي، لأنه حلف ضد فلسطين أولاً.

معركة غزة الأخيرة أشارت إلى ثلاث حقائق:

الحقيقة الأولى هي أن المقاومة تستطيع أن تصمد وتقاتل، وأن كلمة الخوف من الجبروت الإسرائيلي لم تعد موجودة في قاموس الشعب الفلسطيني.

الحقيقة الثانية هي أن إسرائيل بقيادة نتنياهو، ووسط انقسام في المعسكر اليميني، قررت تلافي الحرب، لأنها تخشى مــــن الخســـائر البشرية أولاً، ولا تملك خطة لغزة بعد احتلالها ثانياً، وتعوّل على الوسطاء العرب من أجل هدنة مديدة قد تكون مدخل الدولة العبرية للاستمرار في سياسة ابتلاع الضفة، قبل أن تصير غزة هي الدولة الفلسطينية!

الحقيقة الثالثة هي أن المشهد الفلسطيني، رغم بطولات غزة، مثير للأسى. الحرب في غزة بينما الضفة والشتات في غيبوبة سياسية ونضالية، فالانقسام ولعبة التسلّط يوحيان بأن الشعب الفلسطيني صار شعوباً، وفقد النبض السياسي الموحد. يذكّرنا هذا الواقع بمشهد 1948، حين قاتل الشعب الفلسطيني من دون قيادة موحدة، وكانت النتيجة كارثية. وهذا ما يجب أن تعيه القيادات الفلسطينية في فتح وحماس والجهاد، فغياب وحدة المشروع الوطني كفيلة بأن تجعل من فلسطين ألعوبة في أيدي القوى الخارجية.

هذه الحقائق الثلاث يجب أن تُقرأ من جديد في ضوء مقاومة غزة البطولية، كي يعاد تصويب البوصلة من جديد. والبوصلة ليست غامضة كما يظن البعض، فهي تشير إلى مهمتين عاجلتين.

المهمة الأولى هي التأكيد على أن المقاومة، والمقاومة بأشكالها المتعددة، هي الطريق الوحيد لاستعادة الوحدة وإعادة إنتاج المشروع الوطني الفلسطيني.

فالمشروع الوطني بعد نهاية الانتفاضة الثانية واستشهاد ياسر عرفات انقسم إلى نصفين:

نصف تبنى الدبلوماسية والمفاوضات طريقاً وحيداً للوصول إلى تسوية سياسية مع الاحتلال.

ونصف اعتبر أن الكفاح المسلح هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هذا الهدف.

كأن ياسر عرفات انقسم بعد موته، فقائد الثورة لعب طوال حياته النضالية على الخيارين معاً حسب الظرف السياسي، ولعل خطأه هو أنه صدّق الوعود الدولية بحتمية قيام الدولة الفلسطينية، ولم يع أن القبول بتسوية أوسلو سوف يجعله يدفع حياته ثمناً لخياره العسكري حين صار اللجوء إلى هذا الخيار ضرورياً.

فلسطين اليوم في مرحلة جديدة، العالم تغيّر، وأمريكا وإسرائيل كشفتا عن وجهيهما الحقيقيين، والأنظمة العربية صارت لا تخجل من ارتباطها بالمشروع الإسرائيلي.

فاليوم لا وجود للتسوية إلا في الوهم. التسوية تعني قبولاً باحتلال الضفة الغربية، وغض النظر عن قيام أبارتهايد علني في إسرائيل، والبحث في مصير لغزة يخفف حصارها، لكنه لا يخرجها عن الطوق الإسرائيلي. الوساطة المصرية والمال القطري والدعم التركي المحدود، لا تملك أكثر من هذا الوعد.

من هنا، فإن خيار المقاومة هو الخيار الوحيد، رغم صعوباته ومخاطره الكبرى.

المهمة الثانية هي بلورة رؤية جديدة للمشروع الوطني الفلسطيني، التسوية ماتت، والأفق الوحيد هو تأكيد المؤكد: طرد الاحتلال بلا قيد ولا شرط، وحق العودة، والعدالة والمساواة. الوصول إلى هذه الأهداف دونه الأهوال، غير أن المطلوب اليوم هو تعبيد الطريق إليها، وهذا يقتضي تحولين جذريين كبيرين:

إحداث تغير جـــــذري في السلطة وحركـــة فتـــح، تكون الأولوية فيه لإعـــادة الاعتبار لكتائب شهداء الأقصى، وللعودة إلى الشعار الفتحاوي الأساسي: كل البــــنادق نحو العدو، ولا تستثنى من ذلك بنــــادق الأمن الوطني. هذه ليست دعوة هوجاء للجوء إلى السلاح، فقد تكون المقاومة الشعبية السلمية اليوم في الضفة بما فيها القدس هي الأسلوب الناجع، لكنها دعـــوة إلى إعـــادة الاعـتــبار للسلاح، وجعله في خدمة النضال وليس أداة للتنسيق الأمني والقمع.

وإحداث تحول جذري في البنية السلطوية في غزة والضفة. إن وهم سلطة حماس والإسلاميين في غزة لا يساويه سوى وهم فتح بالسلطة في الضفة. المتسلط الوحيد في المكانين هو الاحتلال، فلتتوقف هذه اللعبة الكوميدية حول من يملك السلطة.
سؤالنا هو متى فلسطين، وهو ليس سؤالاً نوستالجياً يحنّ إلى ماضي الثورة، بل هو بحث في الحاضر عن وسائل المواجهة والصمود والبقاء، ولا عذر لأحد، فالحقيقة واضحة وناصعة يقولها المحتل الإسرائيلي كل يوم.

فمتى نستفيق من رضة الانقسام والرهانات الخاطئة؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة