كيف يغفل بعض الحكام عن نواميس التاريخ؟

محمود زين الدين8 فبراير 2022آخر تحديث :
الحكام

المجد لكل من خدم الشعوب ولم يستخدمها وكان لأمته الحامي والمؤتمن. طوبى للعادلين.

إنها نواميس التاريخ تعلمنا بأن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج مهما تأخر الموعد.

آمال معلقة على قادة القوى العظمى حتى يغلبوا جانب التعقل وخيارات السلام أي أن يحترموا نواميس التاريخ ولا يغفلوا عن سننه.

أسباب السقوط متشابهة: صم الآذان وإغماض العيون عن التغيرات الجذرية التي تطرأ على الشعوب ومحيطها العالمي فتكون القطيعة الكارثية عن الواقع.

ألقى شاوشيسكو خطبته الأخيرة العصماء في آلاف الرومانيين محاولا قلب موازين التاريخ وتغيير مجرى الحضارة في حركة بائسة يائسة تدل على استفحال الغيبوبة السياسية.

الرئيس الذي حرر تونس من الاستعمار وأسس دولتها الحديثة خرج من عصره أي وصل أرذل العمر وتراكمت عليه العلل البدنية والعقلية فغفل عن سرعة التحولات الاجتماعية في وطنه.

العدل أساس العمران وأن الظلم مدمر البنيان والقهر عدو الإنسان وأن الظلم ظلمات يوم القيامة طوبى لمن فاز من الحكام بثقة مواطنيه ومحبتهم فكسب رضاهم عنه وهو من رضا الله سبحانه.

* * *

بقلم: أحمد القديدي

يرجو كل الناس مهما كانت أديانهم أو أعراقهم اليوم أن يصل قادة القوى العظمى إلى حل سلمي لأزمة المواجهة المرعبة بين حلف الناتو وروسيا على حدود أوكرانيا كما يتمنون أن لا يقع صدام مسلح بين الصين والولايات المتحدة حول جزيرة تايوان.
وهذه الآمال معلقة على القادة حتى يغلبوا جانب التعقل وخيارات السلام أي أن يحترموا نواميس التاريخ ولا يغفلوا عن سننه لأن التاريخ الإنساني الحديث أكد أن مرشحاً ألمانياً فاز بانتخابات (نزيهة) رئيساً برتبة مستشار في برلين ليحكم ألمانيا عام 1933 ثم انقلب عام 1939 إلى دكتاتور ومبيد لجزء من شعبه ومحتل لنصف أوروبا ثم تسبب في حرب عالمية من 1939 الى 1945.
ويقال عنه في التاريخ أنه خرج من عصره حين دخل قصره وهذه العبارة رمزية تشير الى قطيعة تحدث بين حاكم وواقعه المتغير.
ونذكر أنه في أواخر الستينات التف الرئيس بورقيبة على أخلص الوطنيين وأكبر وزرائه والرجل الثاني في النظام آنذاك وزير الاقتصاد والمالية والتربية والنقابي القديم أحمد بن صالح التفاف الذئب على الشاة وأودعه السجن وحاكمه بتهمة الخيانة العظمى!
كما فعل الزعيم الخرف عام 1986 مع رئيس حكومته محمد مزالي واضطهده وسجن أولاده واضطره الى النجاة بجلده ونفيت أنا معه لمدة عشرين عاما!
ودخلت تونس في دوامة التصفيات القضائية التي أطاحت بهيبة الدولة ودخل بورقيبة بسببها دوامة المرض البدني والنفسي وبدأ العد العكسي لزعيم كبير أخذ المعول بيده ليحطم ما بناه على مدى ربع قرن من الكفاح ضد الاستعمار.
وكان في مطلع السبعينات شاعر تونسي موهوب هو الحبيب الزناد يكتب قصائده المعبرة ومنها هذه القصيدة التي اعتبرناها أقصر قصيدة في اللغة العربية وهي تصف الزعيم بورقيبة وتقول بكل إيجاز: «دخل إلى قصره وخرج من عصره»!
وبالفعل فالرئيس الذي حرر تونس من الاستعمار وأسس دولتها الحديثة خرج من عصره أي أنه وصل إلى أرذل العمر وتراكمت عليه العلل البدنية والعقلية فغفل عن سرعة التحولات الاجتماعية في وطنه.
تجسدت بعد ذلك تلك الغفلة في أكثر من نظام مع الأسف وبخاصة في الجمهوريات وقبلها في دول المعسكر الشيوعي المنهار من خلال التحولات التاريخية التي هزت شعوب رومانيا وبولونيا والمجر وبلغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا والشعوب التي كانت منضوية تحت يوغسلافيا عندما انهار جدار برلين وأذن بالهزات العنيفة التي عصفت بدكتاتور رومانيا نيكولاي شاوشيسكو وزوجته هيلينة.
وهذا الطاغية الروماني شكل أبرز مثال حي للخروج من العصر والانفصال عن الواقع حين رجع برجليه من زيارة رسمية كان يؤديها إلى الصين فنزل في بوخارست ودخل قصره ومن شرفة ذلك القصر ألقى خطبته الأخيرة العصماء في آلاف الرومانيين محاولا قلب موازين التاريخ وتغيير مجرى الحضارة في حركة بائسة ويائسة تدل على مدى استفحال الغيبوبة السياسية لدى هذا الرجل!
وانتهت تلك المأساة بمهزلة المحاكمة السريعة الجائرة للرئيس شاوشيسكو وزوجته والتي أدت إلى إعدامه وإعدامها ذات ليلة صقيعية من ليالي ديسمبر 1989.
في سجل آخر، مهما يكن تقييمنا لحكم الرئيس صدام حسين وللكارثة التي حلت بالعراق معه باحتلال الكويت والحرب على إيران ومن بعد اسقاطه فإن الموضوعية في قراءة التاريخ الحديث تقتضي منا أن نسجل غياب معطيات الواقع عن ذهنه وأذهان مساعديه وهو لم يستخلص الدرس القاسي.
ولم يفهم أن الزمن دار دورته وللزمن نواميس فامتثل للاملاءات ودمر صواريخه بنفسه ولم يتوقع ما كان يتوقعه الجميع ولم يستمع لنصائح الناصحين ولا لإنذار المنذرين وبالفعل شكل أدق ترجمة لقصيدة الشاعر فدخل إلى قصره وخرج من عصره.
وروى لنا بريماكوف وزير خارجية روسيا (ثم رئيس حكومتها فيما بعد) في مذكراته كيف زار صدام حسين إبان غزو الكويت ونقل اليه طلب روسيا بأن ينسحب وينقذ العراق من تدمير مبرمج فلم يستمع صدام بل سخر من بريماكوف!
وبشكل مختلف كان الأمر بالنسبة للعقيد القذافي وعلي عبد الله صالح والجنرال بينوشيه دكتاتور التشيلي قبلهما الذي قتل الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي وحصن نفسه بالدستور وهرب ملايين الدولارات لبنوك أمريكا حتى جاء يوم الحساب!
فجُرجِر للمحاكم الدولية لتقتص للآلاف من الضحايا ونفس الظاهرة نجدها لدى حسين حبري الرئيس التشادي المخلوع الذي لجأ إلى السنغال بعد المذابح وحول ملفه الى محكمة الجنايات الدولية بلاهاي.
وقبله كان مصير سلوبودان ميلوسيفتش الرئيس الصربي الذي استحل دماء المسلمين فانتهى أمره الى محاكمة في نفس محكمة لاهاي ومات في السجن لأن بئس المصير يلاحق من لم يحسب حساب التاريخ وهزاته المدمرة وقائمة الداخلين للقصر والخارجين من العصر طويلة خلال نصف القرن الماضي.
وأسباب السقوط متشابهة في جملتها تتلخص في صم الآذان وتغميض العيون عن التغيرات الجذرية التي تطرأ على الشعوب ومحيطها العالمي فتكون القطيعة الكارثية عن الواقع. إنها نواميس التاريخ تعلمنا بأن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج مهما تأخر الموعد.
والمجد لكل من خدم الشعوب ولم يستخدمها وكان لأمته الحامي والمؤتمن. طوبى للعادلين الذين أدركوا حكمة العلامة ابن خلدون بأن العدل أساس العمران وأن الظلم مدمر البنيان وأن القهر عدو الإنسان وأن الظلم ظلمات يوم القيامة طوبى لمن فاز من الحكام بثقة مواطنيه ومحبتهم فكسب رضاهم عنه وهو من رضا الله سبحانه فأمن ونام مطمئنا كما نام الفاروق عمر بن الخطاب.

* د. أحمد القديدي كاتب وأكاديمي تونسي
المصدر| الشرق – الدوحة

موضوعات تهمك:

تغييرات أساسية في الأيديولوجيا القومية

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة