دوامـــــة هواء .. قصة قصيرة

الشاعر ع30 أكتوبر 2018آخر تحديث :
دوامة هواء .. قصة قصيرة
الساعة 25

الكاتبة الجزائرية وهيبة سقاى .. صدر لها مجموعة قصصية بعنوان .. حلم حياتى .. وبمناسبة صدور هذه المجموعة ننشر لها قصة من مجموعتها القصصية القادمة وهى بعنوان ( دوامة هواء ) لنحتفى بابداعتها قبل صدورها وهى تقدم قصتها بنفسها .. فتحية لها ولاعمالها الادبية الجديرة بالقراءة والدراسة والتحليل . المحرر

ملّخص القصة

 

 

القصّة  هي من مجموعتي القصصية المقبلة، و هي واقعية الأحداث. تتعرّض فيها البطلة لموقف يجعلها تفقد الثقة، في كّل من  نعته المجتمع بالمثالية و التفرّد.

للأمانة الأدبية، تجدر الإشارة أنّ عنوان القصّة، مأخوذ من آخر  مقطع أغنية “زي الهوى “للفنان الرّاحل  عبد الحليم حافظ.

في ذاك المقطع يصف كاتب الأغنية، أي الشاعر المبدع احمد حمزة، انكساره عندما خذلته حبيبته     و حطّمت جميع آماله الجميلة، و تطلّعاته الحلوة، كما في القصّة بالضبط.

رميت الورد..طفيت الشمع يا حبيبي

و الغنوة الحلوة..ملاها الدّمع يا حبيبي

و في لحظة..لقيتك يا حبيبي

زي دوّامة

القصة

 

دوّامة هواء

 

السبب لغة، هو  ما يُتوصلُ به إلى آخر..أمّا اصطلاحا،  فهو كل وصف ظاهر، منضبط..دلّ الدليل على كونه معرّفا، لإثبات حكم شرعي.. بحيث يلزم من وجوده الوجود..ومن عدمه العدم..

أعترف أنّه تعريف كلمة “سبب” معقّد،نوعا ما..ولكن ما أردت إيصاله من فكرة، و شرح للقارئ..هو أنّ لكّل شيء سبب..يؤدي إلى وجود سبب آخر..و الذّي بدوره يخلق سببا، أو تسلسلا من  أسباب عديدة         و هكذا..

فسبب إدراك السعادة، مثلا، لا يحتاج إلى عوامل كثيرة لكي  يتحقّق..ربّما لفكرة فقط..و الفكرة وحدها كفيلة بخلق السعادة ، و تغيير ملامح الحياة الحزينة..

جاءتني فكرة الكتابة..كتبت روايتي..قرّرت نشرها..تحقّقت الأمنية..أردتُ أن أعلم العّام و الخّاص بازدياد هذا المخلوق الورقي الجديد..وضعت ُقائمة من أسماء الأحباب، و الأصدقاء، و حتّى الأعداء..

همس القدر في أذني :

ــ لقد نسيتِ من سيسعد لإنجازك الأدبي..يقيمّه، و يعطي رأيه فيه بكّل صدق و إخلاص..

ــ من تقصد؟.. لا أظّن أنّي نسيت أحدًا..

أبتسم بخبث..نظر في عيني..اقترب منّي أكثر..خفض من صوته..و كأنّه يريد أن يهمس لي بسّر خطير :

ــ هو..هل تذكرينه؟..قرأتِ له الكثير..أنتِ دوما معجبة برواياته..منبهرة بها..ها قد جاءتكِ الفرصة على طبق من ذهب..أخبريه أنّك قد اقتحمتِ ميدانه..سيبتهج لذلك..و بهذه الطريقة ستخلقين سببا جميلا للقائه..من غير المجازفة لا بكبريائك، ولا  بكرامتك..

أعجبتني الفكرة.. أنجزتها في ثوانٍ..و جاء الرّد ثمّ التهنئة..أبصر السبب  الجميل  ضوء الحياة..توالت الأسباب..وطّدت العلاقة..أذابت الجليد و رفعت الحواجز، من  على دروب السعادة ..

كانت قصّة تعرّفي على هذا الأديب الروائي، بمثابة زلزال جميل..لم يكن مدّمرا بل معمّرا..بعث الرّوح في حياتي  الموحشة..و بلمسة من ألوان زاهية..أزال مسحة الحزن من  على وجهها العبوس..ثّم ضخّ في عروقها المتيبّسة، دماء الأمل المتجدّد..

 

واخبرا طلب أن نلتقي..استبشرت..و لكن ما لبثتُ أن انتابني خوف..إحساس متناقض يصعب فهمه..

و أنا  أفّكر في  يوم  اللّقاء..أحّسست بشيء غريب.. بنشوة و خجل..بفرح الفائز في الامتحان بتقدير جيّد جدّا..و بارتباك الممتحن، المقبل على  اختبار شفوي صعب، أمام لجنة لا ترحم..و لا تسمح بأيّ إنقاذ..

كأنّي أخشى  اقتراب ذاك الموعد..لأنّي جبانة أخشى مواجهته.. كيف سأنظر في عينيه حينها؟..ماذا سأقول له؟..سأفقد حتما  القوّة على النطق..سيتلعثم لساني.. وأفقد القدرة على الكلام..سترتعش يدي عندما تصافح يده..سيلتهب وجهي..سيحمّر  حتما و سيفضحني..

سيكون يوما صعبا..و لكنّه لن يخلوَ من السعادة..تلك التّي كتب هو، عنها الكثير في معظم رواياته..    

 ” أننا عندما نكون سعداء فعلا..لا يخطر لنا أن نتساءل إن كنّا كذلك بالفعل أم لا..السعادة تصبح جزءًا منّا..نحن لا نتساءل إذا كانت يدنا في مكانها أم لا..نحن نتحسّس الأشياء عندما نشّك بوجودها”…

لماذا أستعيد  هذه الفقرة من روايته تلك؟..و بهذا الحنين؟..ربّما لأنّني أحبّه..لا..لا يمكن ذلك..أنا  لا أحبّه.. أحّب كتاباته لا غير..

أنظر إلى ساعة يدي..بقيت أربع ساعات على موعد لقاءنا..لي متسّع من الوقت لترتيب نفسي و إصلاح هندامي..أنهض نحو الخزانة الحديدية في ركن الغرفة..أفتحها..هذه المرّة، لا أُسمع صريرها البارد الكئيب..أُخرجُ علبة الزينة..أستدير لأرجع لمكاني..على زجاج نافذة غرفتي..تقع نظراتي على شبحي المتهالك..

أتأمل نفسي بفضول..ربّما أنا خائفة من شيء ما..من أوّل انطباع له، حينما تقع نظراته عليّ..يراودني الشّك أنّني لن أروق له..معجبات كثيرات، يفقنني جمالا، يحمن دوما حوله..يجب أن أرقى و لو إلى القليل من مستواهن الجمالي..

يا إلهي ما هذه الخواطر السخيفة؟..أنا لا أهتّم بمثل هذه الأمور التافهة..و لا هو طبعا..روائيٌ كبير..مثالي في كّل شيء..الكّل يشهد له بذلك..لا يمكن له من  أن يولي اهتماما، بالمظاهر الخارجية..على حساب الجوهر و القيّم الذّاتية..

أنا  جميلة..أعلم ذلك..كّل ما في الأمر..أنّني مقصّرة في الاهتمام بنفسي بعض الشيء..جميلة، لولا تلك النظارة السميكة،  التّي تخفي عينين مدهشتي البريق..سأبدو أجمل..لو انسدل شعريَ المشدود بقسوة، إلى الخلف..لو خلعتُ ردائي الواسع الفضفاض، برباطه العلوي العريض..كربطة عنق رجل..لو  أبرزُتُ ملامح خصريَ النّحيل، كطوق الياسمين..

لن أغيّر شيئا من إطلالتي..سأظّل كما أنا..بهيئتي البسيطة التّي اعتاد عليها الجميع..أكرّرها للمرّة اللف..لن أغيّرَ شيئًا !..

سأقابل أديبا  مفكّرا..لا مصمّم أزياءٍ..أعرضُ عليه مفاتني  كسلعة رخيصة..من أجل توظيفي كعارضة أزياء، في معرض موديلاته الموسمي..

في ركن المقهى، الذّي اختاره للقائنا..جلستُ لأحدى الطاولات، واضعة حقيبتي على ركبتي..انتظر قدومه بفارغ الصّبر..

أفتح حقيبتي من الفينة و الأخرى..أطّل على غلاف رواية له، أحضرتها معي..ألقي نظرة على  صورته..أحاول جاهدة حفظ ملامحه..كي يسهل لي التعرّف عليه، حينما يأتي..

 ــ أهلا و سهلا بحضرتك أديبنا الكبير..شرّفت المقهى..تفضل سيّدي !..

من ترحيب النادل..علمتُ بمقدمه..اعتدلتُ في مجلسي..خفق قلبي بقوّة..ظننته سينفجر بين أضلعي..ابتلعتُ ريقي..أحسستُ بحرارة تجتاح جسمي ..من رأسي إلى أخمص قدمّي..

 بنظراته الحّادة..كنظرات صقر يبحث عن فريسته الضّالة..تعرّف علّي من الوهلة الأولى..تقدّم نحو الطاولة بخطى ثابتة..نظر إليّ ..لم تتجاوزني عيناه المتفرستان، كما يفعل عّامة الرّجال..ظلّتا تتأملاني ببطء..

عينان عميقتان خضراوان..تجوسان وجهي..كعاصفة عطر مثيرة.. كأّنهما تنزعان عن وجهي النظّارة السميكة..ترميان بها عند قدمي..تحّلان ربطة شعري بحنان..تدغدغان آلام الخصلات المشدودة..تعرّني نظراته من ردائي..ثّم تزحف برعونة لذيذة فوق ذراعيّ..تبعث فيهما دفء شمس..تحّط بثقلها على صدري..يزداد شموخا و يرتعش..تداعب خصري، فيترّنح بلذّة..

رحلة نظراته في معالمي..أرهقتني و كشفتني..أشعرتني أنّني سخيفة و مضحكة..أنّني لستُ أنا..بل مجّرد ممثّلة بلهاء..اكتشفت فجأة أنّ ثيابها مضحكة..و أن دورها  لن يرقى لذوق متفرّج عادي..

ــ أهلا و سهلا..سعيد للقائكِ اليوم !..

أحسستُ أنّ ترحيبه يفيض سخرية..لكن بالرّغم من ذلك..بعثت ابتسامته في أطرافي، دفئًا مفاجئًا مسعورًا..ابتسامة رجل لامرأة..ما أروعني، و ما أسوأني من امرأة !..

لم أقل شيئا..آثرتُ الصمت  و التأمل..تأمّلِ وجهه المشرق،  كروض عبثت به  زخّات الخريف المنعشة..

سألني’ و كأنه أراد أن يخرجني من دائرة الصّمت التّي سجنته فيها :

ــ ما هذا الصّمت..أريد أن أسمعك..حدّثيني  في بضع كلمات عن روايتك..

ــ “ما أحلى الكلمات التّي لا نقولها..عندما نحّس أنّ الحرف عاجز عن استيعاب انفعالاتنا”..ليلة هاربة..صفحة 74..

ضحك ضحكة طويلة  و صفّق :

ــ برافو عليك !..صرتِ تحفظين كلام رواياتي عن ظهر قلب..لا باس من الحفظ..و لكن لا تصّدقي كّل ما يردُ في كتاباتي..

أنا أتقن صناعة الكلام و الغزل على الورق..سألّقنكِ إيّاها  تطبيقيا إن أردت..و لكن ليس هنا..قومي بنا إلى شقّتي، سنكون أحسن هناك..

استهجنتُ كلامه..صدمني..لم اصّدق ما سمعته منه..التفتتُ، ربّما هو يخاطبُ أخرى..تجلس في طاولة وراءنا..أنا مستيقنة أنّه  لا يقصدني أنا..

ربّما هو يمزح..نعم يمزح..و لكن يجب أن أتأكد..و أن لا أتسرّع  في إصدار الحكم عليه..إنّه يختلف عن الجميع..إنّه مثالي في كتاباته إلى حّد كبير..يدافع عن الحّب و المشاعر الجميلة..أنا مخطئة في فهمي له..

ــ معذرة..و لكن ما الذّي تنوي  تلقينه لي تطبيقيا؟..ثّم من قال لك أني اذهب إلى شقق الرجال؟..

 أطلق قهقهة عالية..تفوح منها رائحة شيطانية كريهة..غيّرت الصّورة و الألوان..سحابة قاتمة غطّت أشعة الشمس..أطفأت نور النهار فجأة..صار المكان موحشا كئيبا..كزنزانة محكومٍ عليه بالإعدام..كبئر سحيقة، جّفت مياهها منذ سنوات..

ــ لا أكاد أصّدق..أين الذّكاء و النباهة اللذان ادّعيتهما في رسائلك لي..سآتي على نفسي، و أنزل إلى مستواك الضعيف من الفطنة..سأوضّح لك الأمور أكثر..

سنذهب إلى شقّتي، كرجل و امرأة..إنسي أنّني روائي، و أنّك كاتبة مبتدئة..هناك سنمضي وقتا ممتعا بمفردنا..سألقّنك أصول الحّب..سأ..

ــ اخرس أيّها المنحّل..لا تكمل..لا أريد سماع صوتك..تبّا لك و لرواياتك الكاذبة..تبّا لزيف مشاعرك أيّها الدّجال ..

تناولت روايته من حقيبتي، و رميته بها..خرجت مسرعة من المقهى..الظلام ينفجر من صدري..ينسكب في دربي..يغمره بصقيع رمادي..الانكسار يتمّطى في أحداقي..

صوت قهقهته تنسل في عروقي، و تنفجر سمّا من شَعري..من أظافري و ضلوعي..إنّي أضيع..أتلاشى في دوّامة الشارع التّي تسحقني..عيون المّارة تنزلق على وجهي بذعر..تغرس في جرحي..سكاكين حّادة..تجعله ينزف أكثر..فأكثر..

مات الأمل الجميل ..ابتلعه غول الواقع، و الحقيقة الدميمة..لم يبق سواي..أحمل عذابي، و أدور في دوّامة هواء.. تجذبني تياراتها ، إلى أعماق سحيقة بلا نهاية..

 بقلم : وهيبة سقاى _ الجزائر

25507762 1879498938745685 3072251931089007324 n

وهيــبـــــة سقــــــــاي ، من مواليد مدينة قسنطينة . حاصلة على شهــادة الدراسات العليا في علوم الأحياء الدّقيــقة Microbiology ،من جامعة قسنطيــنة (الجزائر) ، أستاذة محاضرة بمعهد جامعي، و حاصلة على شهادة في الترجمة العلمية Scientific Translation، من معهد الشارقة (الإمارات العربية المتحدّة). تخّصصها العلمي المخبري، لم يفقدها حاسّة التطّلع إلى غير حقلها . فأرادت بذلك، أن تستفيد من دراساتها العلمية، في معالجاتها الأدبية، و تضفي على كتاباتها روح الواقعية، التّي أملتها عليها خبرة الأيّام، فتسكب فيها شيئا من الرومانسية، و الخيال الحالم بما يبعث على التفاؤل و حبّ الحياة. للكاتبة مجموعة قصصية،هي أوّل إنجاز أدبي لها ينشر من دار نشر مصرية، دار النسيم، تحمل عنوان “حلم حياتي” .بالإضافة لمجموعة قصصية ثانية سترى النّور قريبا من نفس الدّار،و التي أُخذت منها هذه القصّة. كما لها مسرحيات للأطفال بالّلغة العربية ، و رواية منشورة ، مترجمة من الّلغة العربية إلى الّلغة الإنجليزية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة