خواطر على هامش أزمة أوكرانيا

محمود زين الدين2 أبريل 2022آخر تحديث :
أوكرانيا

الغرب الجديد الذي اكتشفته الصين ورث عن أوروبا انقساماتها وحساسياتها، وبعضها مدمر لنفسه، ومخرب للآخرين.
أمريكا منحدرة ورافضة للانسحاب بهدوء، أو خلق مساحة بالقمة للصين الصاعدة وروسيا الساعية لاستعادة مساحة كانت لها في القمة.
حذار من قسوة ردّ فعل قوة دولية منسحبة تحت ضغط قوة أخرى صاعدة، أو لظروف هددت هيمنتها ودفعت مصادر قوتها لحافة الانحسار.
كما حدث في أزمات سابقة أحاطت بنشأت أزمة أوكرانيا شبهات التآمر وطالها الاتهام بالخداع والخيانة والكذب المتبادل بين مختلف أطرافها.
هناك في أقاصي الشرق تقف الصين مستعدة بآمال واسعة، هي أيضاً سمعت هذه الأصوات، وهي الآن كما فهمت، تخطط لتجميعها ضمن تيار واحد.
دولاً صغيرة خطر لها أن ترفض رغبات دولة بالقمة ورأينا رئيس حكومة دولة كبرى كانت تهيمن وتأمر وتكلف، يقف اليوم متوسلا على أبواب الدول الصغيرة.
القطبان الروسي والأمريكي، سيخرجان من الأزمة الراهنة وسمعة أحدهما، حتى لو انتصر في هذه الحرب، في الحضيض، وسمعة الآخر مستمرة في الانحدار.
* * *

بقلم: جميل مطر
الأزمة لا تريد، أو لا يراد لها أن تتوقف، أو تنتهي. هي مثل معظم الأزمات الدولية مفيدة لأطراف، ومضرة لأطراف. أزمة مثل أزمات كثيرة يتبرأ منها فاعلوها والمتسببون بها، ويتحمل عواقبها والخسائر المترتبة عليها أبرياء لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وكما حدث في أزمات سابقة أحاطت بنشأتها شبهات التآمر وطالها الاتهام بالخداع والخيانة والكذب المتبادل بين مختلف أطرافها.
ومثلها أيضاً غابت بعض أسباب نشوبها، أو تعتمت بفعل فاعل. مثلها مثل أخريات، ومثل انتفاضات وثورات أنجبت مهرجين صاروا بفضلها وفضل حلفائها أبطالاً، أو سمحت لأبطال وشجعتهم ثم تخلت عنهم، أو تعودت عليهم فصاروا في نظرها ونظر المراقبين كالمهرجين.
هذه الأزمة مثل كل أزمات أوروبا عبر التاريخ، قديمة وحديثة، مرعبة، تثير فزع الأوروبيين في الغرب كما في الشرق، وبعض شرارات هذا الفزع تعبر المحيطات والبحار إلى الأمريكيتين وإفريقيا وعبر الصحارى الشاسعة إلى بلاد تطل على المحيطين، الهادي والهندي.
انتبه لهذا الخطر الأوروبي الدائم رؤساء في الولايات المتحدة، فخرج أحدهم بمبدأ مونرو تحذر الأوروبيين من الاقتراب من أمريكا الجنوبية، وبعد ثلاثة قرون خرج رئيس أمريكي آخر بحلف وقواعد جعلها مبرراً لافتعال أزمة في البلقان بجنوب أوروبا، وبعده بثلاثين عاماً خرج رؤساء أمريكيون آخرون بأسباب وحوافز متناقضة ليتدخلوا، ويصنعوا أزمة على الحدود الشرعية الفاصلة بين امبراطوريتي الغرب الأطلسي وروسيا، حدود نصت عليها اتفاقيات دولية، وأهمها ما عرف بمذكرة بودابست للضمانات الأمنية الموقعة في ديسمبر/ كانون الأول 1994.
من منّا لم تحاصره خلال الأشهر الأخير خواطر عدة، وأحياناً متناقضة، بينما الدنيا من حوله تغلي بأخبار القتل والدمار في أوكرانيا؟ من منّا، أبناء جيل مخضرم، فارقته، ولو للحظة واحدة، المقارنة بين دوافع غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا، ودوافع إقامة صواريخ سوفييتية في جزيرة كوبا والتهديدات اللاحقة في كلتا الحالتين بإشعال حرب عالمية نووية؟
من منّا، نحن، أبناء طائفة المعلّقين والمراقبين والمفكرين، في السياسة، لم يجد صعوبة في وضع تصور للأزمة حول أوكرانيا يخلو من تخطيط استهلك إعداده شهوراً، وربما سنوات؟ بعضنا، أقصد أفراداً أو جماعات في هذه الطائفة، توقع منذ عام 2014 وقوع كارثة على هذا المستوى، أو أقل أو أكبر، بينما بعض السياسيين كان يعمل بجد وإخلاص لصنع هذه الكارثة، وليس لتفاديها. ونسي هذا البعض من السياسيين في هذه الناحية،
وفي ناحية أبعد، أو تناسى، أن اتفاقاً عقد في بودابست بين قادة من هنا وقادة من هناك. ونصّ الاتفاق على ألا يتقدم حلف الأطلسي إلى أبعد نحو الشرق فيقترب من روسيا حتى يمس حداً من حدودها، فيصبح من حقها، عرفاً وقانوناً، أن تدافع ولو بالقوة، عن أمنها وسيادتها.
الآن في عرف الغرب ديمقراطي الطابع، وليس الطبع، فإن كل من يرفع هذه الحجة ويأتي على ذكر هذه الاتفاقية أو يدافع عنها فهو بالتأكيد منحاز لروسيا، ومناهض للقيم الإنسانية والحريات.
وكلما أثير الموضوع أمامي، وكثيراً جداً ما يثار، أتذكر التاريخ الأوروبي، تاريخ الحروب المتصلة والمتواصلة تتخللها فترات استقرار ونهضة وحضارة. وكان لنا من هذا التاريخ أكثر من نصيب. واحد منها جاء به الإسكندر المقدوني وبطانته من القادة البطالمة، مروراً بالحروب الصليبية، وغزوات الاستعمار الأوروبي وصراعاته البينية على أراضينا، وضد شعوبنا في آسيا وإفريقيا.
أمريكا تعاقب روسيا، وتحشد الجيوش لردعها، وتعبّئ الاقتصادات لتقزيمها عقاباً لها على هجومها على أوكرانيا، هذا الهجوم المبرر نظرياً، بحافزين لهما وجاهتهما.
أولاً، قطب دولي يهجم على أوكرانيا تماماً كما سبق أن غزا قطب دولي أفغانستان ثم العراق، إلى جانب غزوات سريعة في مواقع أخرى. ولم ينفعل العالم، حتى إن بعض القادة السياسيين اعتبر الغزو قاعدة شرعية من قواعد النظام الدولي التي صاغتها أمريكا بنفسها.
خطر خاطر آخر. الصين لا بد أنها استفادت من كارثة حرب أوكرانيا. أعدت بياناً رائع الصياغة، وجعلت بوتين يتبناه بعد وضع إضافات بسيطة من عنده. البيان يشير إلى سياسة للصين تتجاوز هذا الغزو إلى عالم جديد بقواعد جديدة تشترك الصين في صنعه من دون أن تلجأ لتدمير القائم.
وتعتمد الصين على هذه السمعة مع الثقة الكاملة بأن القطبين، الروسي والأمريكي، سوف يخرجان من الأزمة الراهنة وسمعة أحدهما، حتى لو انتصر في هذه الحرب، في الحضيض، وسمعة الآخر مستمرة في الانحدار.
الصين الواعية دوماً لتاريخ أمريكا العنصري والإمبراطوري يجعلها أكثر اطمئناناً على مستقبل مسيرتها نحو القمة. ومرة أخرى بعد سبعين عاماً، أي بعد باندونغ، يعود العالم النامي أسمر اللون ليشعر بحاجته الماسة إلى الصين، قائداً أو رفيقاً.
واستفادت الصين كذلك مما اكتشفته من سلوكات وتصرفات الدول الغربية خلال الأزمة الأوكرانية. الغرب الجديد الذي اكتشفته الصين ورث عن أوروبا انقساماتها وحساسياتها، وبعضها مدمر لنفسه، ومخرب للآخرين.
خاطر آخر. خاطر يؤكد خاطراً آخر ألحّ على غيرنا، وبخاصة على فلاسفة الإغريق من قبلنا، وهو أن نحذر قسوة ردّ فعل قوة دولية منسحبة تحت ضغط قوة أخرى صاعدة، أو لظروف هددت هيمنتها ودفعت أكثر مصادر قوتها إلى حافة الانحسار. أمريكا منحدرة ورافضة للانسحاب بهدوء، أو لخلق مساحة في القمة للصين الصاعدة، وروسيا الساعية لاستعادة مساحة كانت لها في القمة.
ومن الخواطر ما ذهب إليه اليسار الأوروبي وفي العالم النامي من حماسة في الدفاع عن روسيا ضد الحملات الإعلامية وسياسات حلف الأطلسي. المثير للانتباه مجدداً، والدافع لهذا الخاطر، هو الارتباك أو التخبط الأيديولوجي السائد في مختلف الأرجاء.
اليسار مع قطاع غير بسيط من المزاج الليبرالي يتعاطفان مع روسيا ضد أمريكا، وضد دول تحكمها أنظمة ديمقراطية تصدر عنها أصوات تبشر بقيم الحقوق والحريات، أصوات ترتفع حيناً وتسكت طويلاً، وسياسات أكثرها مصحوب بالعنف والظلم، أو متسبب بهما.
خاطر آخر خطر لي ولغيري، بعد أن سمعنا أو قرأنا ما معناه أن دولاً صغيرة خطر لها، وربما لأول مرة، أن ترفض رغبات دولة في القمة. وسمعنا، وقرأنا، ورأينا رئيس حكومة دولة كبرى، كانت حتى يوم قريب تهيمن وتأمر وتكلف، هو اليوم يقف على أبواب هذه الدول الصغيرة يتوسل.
ما كان هذا التطور ليحدث من دون أزمة بحجم أزمة أوكرانيا. في المقابل تتجمع دول صغيرة أخرى، ثلاثاً ورباعاً، تستعد لقولة لا، أو نعم، بصوت أعلى من الصوت المنفرد.
هناك في أقاصي الشرق تقف الصين مستعدة بآمال واسعة، هي أيضاً سمعت هذه الأصوات، وهي الآن كما فهمت، تخطط لتجميعها ضمن تيار واحد.
* جميل مطر مفكر سياسي، دبلوماسي مصري سابق
المصدر: السروق – القاهرة

موضوعات تهمك:

ثلاثة عوامل تجعل مساعدة الغرب لأوكرانيا عسكريا “محدودة”

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة