حسني مبارك لم يكن منحطا؟

عبد الرحمن خالد26 فبراير 2020آخر تحديث :
حسني مبارك

لا يرغب هذا المقال في الاحتفاء بالرئيس الأسبق (المخلوع) الراحل، محمد حسني مبارك الذي ووري التراب اليوم، ولا حتى للاحتفاء بالحدث، والأمر من الممكن اعتباره أمرا بيولوجيا غير ذي شأن كبير البتة (هذه محاولة غير مفلحة للإهانة).

الموضوع لا يتطلب الاكليشيهات الفارغة حول طبيعة المصريين المتناسية أو حتى بتعبير الراحل نجيب محفوظ الأكثر بلاغة: “آفة حارتنا النسيان”، أو أشياء من هذا القبيل، إلا أنه يتعلق أكثر بمدى عمق التذكر التي يعيشها المجتمع المصري حاليا في ظل التناقضات غير المفهومة ليس على مستواه فقط، ولكن ربما الرئاسة المصرية نفسها لم تعرف ماذا تقول وبدت أفعالها كلها مرتبكة إلى حد كبير، على الرغم من أن موقفها واضح من الثورة وواضح أيضا من مبارك، كشخص أراد توريث السلطة لنجله، لا كشخص حكم مصر 30 عاما.

لا يبدو المشهد ملتبثا فمن الممكن أن نسرد فقرات طويلة عن فساد حسني مبارك ونخبته الحاكمة، يمكن أن نعدد جرائمه الأخلاقية والسياسية والإنسانية على كافة المستويات، بداية بالمسارات التطبيعية مع الاحتلال، عدوه الذي كاد يقتله لو لم يحالفه الحظ ويكون وقتها قائدا للقوات الجوية ليسمى فيما بعد صاحب أول ضربة جوية، بدلا ممن حملوا عنه عبأ خطر المعركة وهمشوا فيما بعد على مدار العقود الثلاث، أو حتى بداية من سليمان خاطر مرورا بعبارة السلام وحتى خالد سعيد وسيد بلال، الأمر سهل للغاية، بل بديهيا تناقله وعبوره إلى الذهن بمجرد أن تحاول أن ترى الرجل بعين 2011 ولو للحظة.

لكن الأشد صعوبة هو السؤال لماذا لم يعد حسني مبارك منحطا؟

لا يمكن أبدا المقارنة بين أداء الشخصيات، أو أفكارهم، أو مبادئهم، أو حتى مواقفهم في مثل تلك الحالات، حيث أن تلك التجاذبات تهمش الطرف الأهم، صاحب الفعل الحرفي في كل عام وعهد، وليس فقط في الفترة بين 2011 و2014.

لا يمكن الجزم بإجابة السؤال حيث أن الإجابة قد تكون ذاتية للغاية في كل وجه من أوجهها، ولكن بحسب اعتقادي فهي جميعها حقة، فالرجل الذي جاء من كفر مصيلحة في محافظة إقليمية مثله مثل غيره من سابقيه، والذي تحول من قائد عسكري إلى نائب رئيس إلى رئيس بتسارع شديد مع تسارع الأحداث وقتها وبتأقلم عجيب، والأعجب منه ما مر به من نكسة هزيمة ساحقة إلى انتصار غير مكتمل ثم إلى كامب ديفيد، لم يفعل شئ سوى أنه بتعبير محمد أنديل “أخ كبير”، “قعد وقعد مصر معاه، مكنش فيه وراهم حاجة يستنوها”.

لا يتعلق الإشكال بكونه فقط  موظف بيروقراطي عتيق لا يقدم شئ سوى الهدوء، وعدم الاشتباك مع أي مصيبة تحدث في البلاد أو في المنطقة أو في أي مكان بالعالم، على العكس تماما فالأمور هادئة للغاية لديه، ليس لديه مشكلة في أن تحدث مصائب الدنيا كلها ويأخذ الأمر بكل بلادة، ليجعل من مآساة فيما بعد نكتة ثقيلة الظل أو غير أخلاقية، لكنه لم يركز في الأمر أو يعيره اهتماما ولابد لا يعنيه، علينا اعتبارها نكتة أبله في غرفة عمليات يريد أن يرى الضحكة على عيون المشاهد أو المواطن، (راجع افيه حسني مبارك عن العبارات التي لا تغرق)، ليست تلك هي المشكلة.

لكن المشكلة وتخيل معي عزيزي القارئ فإن خروج التظاهرات ضد مبارك وسقوط نظامه، وتقديمه للمحاكمة لم يحرك كل ذلك شعرة منه.

الرجل فقط ترك رأسه تبيض كطبيعة الأشياء، فلم يعد الرئيس الذي يريد أن يثبت انه سيعمر للأبد، وإنما الآن جاء دور تمثيل دور الحكيم الذي عاش ما عاش وخدم الوطن وشعبه ولا يهمه الحكم لأنه لم يكن ينتوي الترشح، يبقى هكذا بلا تغيير يذكر غير زيادة التجاعيد وتغير لون شعره عن المعتاد، هذا ما حادث وللغرابة الشديدة لم تحدث له جلطة ومات من أول لحظة يدخل فيها القفص، أو حتى من أول لحظة يخرج فيها من القصر هاربا على متن طائرة هليكوبتر تقله إلى شرم الشيخ، إلى التقاعد الحقيقي.

حسني مبارك لم يكن منحطا بمقاييس ما، الرجل كان مجرد رجل فاسد يستفيد ويفيد، لا يرى أبعد من ميدان التحرير الذي يمر عليه من القصر العيني ذهابا وإيابا كل مدة زمنية، ولا يعلم كثيرا أو لا يكترث بمن هم هناك وراء الميدان، وأن هناك حياة أخرى وأناس سينقلون كل حياتهم إلى الميدان فيما بعد. ليثبتوا له وجودهم.

فقط عندما يتذكرهم كل عام مالي أو حادث لا ينسى أن ينزل لهم الزيادة السنوية إياها التي ترفع التضخم وتبقي الشكل العام ثابتا لن تقف العلاوة إذا، استمروا بطبع الجنيه ما دامت أموالنا بالدولار، وبعدها تجده لا يوفر فرص عمل في آخر عقد، فالرجل وظف موظفين خالقا آلاف الوظائف التي لا عمل فيها سوى أن تسير تلك العجلة كما هي.

حسني لم يكن فاسدا في رغبته ولكنه كان فاسدا هكذا بدافع الفرصة، كالموظف الذي اختلس من خزينة زميله ما استطاع حمله، المصلحة هي التي تجعله يتحرك وعلى الأرجح لا يمكن استفزازه، إلا إذا كان الأمر يستدعي إلا انه أيضا عندما يستفز يتحرك بهدوء، مبارك كان هادئا جدا (باردا) لكنه غير ممل وإلا لما بقي ثلاثين عاما، يلقي بتصريحات لا مبالية مثيرة مثل “خلوهم يتسلوا” تقضي عليه في نهاية المسلسل.

يحاصر حسني مبارك قطاع غزة بكل بساطة بموائمات وسياسات، لا لأنه بالطبع لا يحب جماعة الإخوان وبالطبع لا يحبهم مسلحين، لا يفكر بالأمر باعتبار السلاح موجها ضد أصدقائه الإسرائيليين، ولكن الأمر لا يعدو أن يكون أمرا روتينيا يفعله، يغلق الحدود عليهم بطلب أمريكي لا يهتم أن يعارضه بكل بساطة، وفي الوقت ذاته سيترك لهم الأنفاق لا من باب الإنسانية والالتفاف، ولكن ربما بطلب أمريكي آخر لكي لا ينفجر القطاع باعتبار أن الأنفاق يتم استخدامها في تمرير مواد أساسية ومعيشية.

وعلى الرغم من ذلك فالرجل الذي تجده يطبع علاقاته مع عدوه، بل ويحوله إلى صديق، لمجرد أن لديه مصالح يعمل على الحصول عليها فقط، لن يكون منحطا لدرجة أن يعتبر نفسه وعدوه كيانا واحدا مشتركين في المصالح والعدو.

ولعل هذه الأيام السوداء التي يقود فيها “ابناء زايد” المنطقة تجعل النظر إلى قيادة مبارك “الحكيمة” للمنطقة العربية والانتفاخ المتكرش لدى الذات المصرية قائدة العروبة إبان حكمه، أخف وظئا وأقوم قيلا، وتعتبر من ألطاف الله بالمقارنة بما نعانيه اليوم من الصقور العرب المتصهينين، بينما يمكن أن نقول: مبارك كان لديه مفهوم واضح عن الوطنية والعروبة وإن كان المفهوم مختلا، لكن على الأقل لديه، والأكثر احتراما أن الاعمال الفنية التي تنافقه هي أعمال شبه وطنية بشكل ما يقودها الخلوق محمد صبحي!

ربما نكون قد خسرنا أشياء هامة جدا بفقدان مبارك، ولعل أهمها صوته الرخيم والهادئ وتغيرات نبرة صوته كـ”فويس أوفر” غير مفتعل، فقدنا خطاباته البليغة يعني لابد أنك تذكر جملة “لم أكن أنتوي الترشح لفترة رئاسية مقبلة”، أو جملة “إن هناك خطا رفيعا بين الحرية والفوضى” و غيرها من الجمل، وحديثه الدائم عن وعود تتعلق بتحسين أوضاع المواطنين حتى وإن كان كل ذلك كذبا، لكنه يحترم حقك في الحصول على حياة أفضل بأموالك التي يسرقها، أمر يستدعي التقدير صحيح؟

أنا بصراحة اشتقت إلى الحديث عن “خطوات جديدة نحو مزيد من الديمقراطية ومزيد من الحريات إلى المواطنين”.

بذمتك أيها القارئ العزيز هل تفتقد مثلي نداء “أيها الإخوة المواطنون”، حنين إلى هذا التنميق وأخلاق الطبقة البرجوازية الهادئة ذات السمت المفتعل من الهدوء والكلمات المهذبة والمبتسمة، والتي قد تنقلب إلى شعور بالقرف إذا شاهد ضحية ملطخة بدماء!

وفي الوقت ذاته ربما بمقارنتها بقلة الربايا فذلك التنميق شبه المصطنع، أكثر رحمة إلى حد كبير من قلة الربايا أو نحنة زائدة عن الحد تعبر اللزوجة بمراحل.

مهذب حسني مبارك وعاميته مثقفة كما يصفها لغويون، كما أنها ذات لكنة محلية (منوفية) مميزة وجميلة، دائما ما يتحدث عن أحداث جلل في المنطقة وفي العالم والبلاد، لكن “ملناش دعوة بيها” حتى لو المفروض ننتظر قليلا ونصبر على وعوده المستمرة وتأخير تنفيذها، بسبب عظم الخطر في المنطقة والعالم، لكن أيضا “ملناش دعوة” بما يحدث.

وفي النهاية وعلى الرغم من كل ذلك السرد مبارك كان منحطا، “أه والله بكل بساطة”.

يجب أن أذكر شيئا هاما:

“بعد ثمانية سنوات من حكم جورج بوش للولايات المتحدة الأمريكية، على لسان مذيع النشرة ذو الصوت المتكاسل، تم إخبارنا بفوز باراك أوباما بالانتخابات ونهاية فترتي الرئيس بوش، كان الأمر غريبا ومدهشا بالنسبة لمصري لم يعرف سوى حسني مبارك منذ ولادته حتى تلك اللحظات، كان أشبه بأول مرة تواجدت فيها في غرفة بها “مكيف هواء”، إلا أن وفاة الرئيس “الأسبق” اليوم لم يشعرني كما شعر آخرون بدهشة حيث “في رئيس بيموت” على حد تعبيرهم”.

موضوعات تهمك:

محمد مرسي وحسني مبارك.. كيف كانت علاقة الرئيس المنتخب والديكتاتور؟

ختمة قرءان على روح الرئيس مبارك

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة