تعدد مرجعيات القيم والحاجة للحسم

محمود زين الدين20 يناير 2023آخر تحديث :
القيم

من الضروري أن نطرح نحن العرب على أنفسنا هذا السؤال: ما موقفنا مما يجري وما السبيل الذي يصلح لنا ولمجتمعاتنا؟
ما لم نحسم موضوع مرجعية القيم التي نريد تبنيها للحياة العربية، سنظل رهينة مرجعيات الغير وما تقوده من قيم لا نرضاها لأنفسنا ولا للعالم.
وسائل الإعلام تساهم بشكل كبير في نشر قيم متلاعب بها وتبرير تبنيها لصالح الأقوياء والأغنياء ومؤسسات ثقافية وتربوية وفنية يفترض أن تدافع عن القيم تقف عاجزة بعد أن شرائها أو إفسادها.
* * *

بقلم: د. علي محمد فخرو
موضوع تشوه أو غياب أو التلاعب بالقيم الإنسانية والأخلاقية في كل أنحاء العالم أصبح حديث الساعة. فالدول الكبرى المهيمنة تتلاعب بكل القيم، من أجل خدمة مصالحها ونفوذها في الحقل السياسي، والشركات والبنوك العولمية الكبرى تستعمل بانتهازية كل القيم لكسب تنافسها المجنون في الحقلين التجاري والمالي، ووسائل الإعلام تساهم بشكل كبير في نشر تلك القيم المتلاعب بها، وتبرير تبنيها لصالح الأقوياء والأغنياء، والمؤسسات الثقافية والتربوية والفنية التي من المفروض أن تدافع عن القيم تقف عاجزة بعد أن أصبحت هي الأخرى مشتراة أو فاسدة.
ولما كنا في عصر عولمي بامتياز، وأصبح العالم عبارة عن قرية واحدة، بتأثيرات تفاعلية متبادلة، فإنه من الضروري أن نطرح نحن العرب على أنفسنا هذا السؤال: ما موقفنا مما يجري وما السبيل الذي يصلح لنا ولمجتمعاتنا؟
والجواب القاطع هو أننا ما لم نحسم موضوع مرجعية القيم التي نريد تبنيها لحياتنا العربية، فإننا سنظل حبيسي مرجعيات الغير وما تقود إليه من قيم قد لا نرضاها لأنفسنا، بل ولا للعالم، ونحن جزء منه. وبالطبع لما كانت الحضارة الغربية هي المهيمنة على عالمنا فإن المرجعيات الفلسفية والثقافية والسلوكية الغربية، وعلى الأخص الأوروبية والأمريكية الشمالية، هي السائدة حالياً، بما فيها سيادتها في وطننا العربي، وإصرار البعض منا على تفضيلها على مرجعياتنا العربية الذاتية. دعنا نركز، لصالح تربية وثقافة شاباتنا وشبابنا العرب، بعضاً من الرفض المطلوب الواضح الصريح لعدد محدود من مرجعيات غربية شهيرة.
الأولى هي المرجعية المكيافيلية التي تدعو إلى الفصل بين الأخلاق والسياسة، تحت مبدأ وشعار «الغاية تبرر الواسطة». ما يستطيع أن يقود إليه هذا الشعار من خداع وفساد وتلاعب بعواطف البشر واضح أمام أعيننا في كل مكان: تراجع مرعب في الأنظمة الديمقراطية، وفساد متنام في أنظمة الحكم، ورجوع إلى عهود الاستعمار، إلخ.
والثانية هي المرجعية «الوضعية العقلانية» التي جعلت من العلوم التطبيقية الحسية، والعلوم الإجتماعية والإنسانية، والعادات والأعراف هي أساس التقدم الإنساني، مقللة من أهمية وحضور الميتافيزيقية الإيمانية، وأصوات الضمير الإنساني، ومشاعر المثل العليا التي تسمو بروح الإنسان، لتنقلب القيم والسلوكيات الأخلاقية ظواهر اجتماعية ومنهجيات عقلية قابلة للأخذ، أو الرفض، أو التعديل حسب مقتضيات الظروف النفعية والموديلات المسعرة للغرائز، حتى لو كانت هابطة.
وقد تفرعت عن المرجعيتين السابقتين مرجعيات فرعية مثل، شعارات «اللاعقلانية» النيتشية الشهيرة، و«النيوليبرالية» الرأسمالية التي يعيشها العالم حالياً، و«الفاشية النازية» التي ما إن تختفي في مجتمع حتى تظهر وتنمو في مجتمع آخر، و«النفسية» الفرويدية المختلف حولها.
هل حقاً أن مرجعيات القيم، وممارستها، وتطويرها نحو الأعلى والأسمى، والنضال من أجل جعلها جزءاً من كل أيديولوجية عربية ومن كل استراتيجية تنموية، والرجوع إليها لمواجهة ما تواجهه البشرية ومجتمعاتنا من أحزان ومآس وأمراض اجتماعية..
هل حقاً أن كل ذلك يجب أن ينتظر حتى تستفيق الحضارة الغربية، وتراجع تاريخها المليء بالاستعمار والاستغلال والحروب، وحاضرها المليء بالظلم والعربدة والإصرار على الهيمنة على كل العالم وعلى مصير العالم، وحتى تقبل أن تتعايش مع الحضارات الأخرى؟
هذا هو السؤال المطروح بقوة في الدوائر الفكرية الغربية، الذي يجب أن نعود ونهيئ شبابنا وشاباتنا على طرحه، وذلك من أجل إعداد أنفسهم وشعوبهم ومجتمعاتهم، للانتقال من حالة التقليد الأعمى والإيمان غير المتزن بتلك المرجعيات الأخلاقية الغربية، إلى بناء مرجعياتنا الذاتية التي بالطبع قد تستفيد من مرجعيات الآخرين سلباً وإيجاباً، ولكن تضيف إلى ذلك إبداعات عوالمها الدينية الروحية، والتاريخية، والضميرية، والنفسية، والمساهمة مع الغير في صعود الإنسانية إلى الأسمى والأفضل والأكثر جمالاً في عملية تعمير الأرض وسلام عيش ساكنيها. هذا ما سنحاول إبرازه لشاباتنا وشبابنا.

*د. علي محمد فخرو سياسي ومفكر قومي بحريني

المصدر: الشروق – القاهرة

موضوعات تهمك:

ليبرالية القيم وليبرالية المؤسسات

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة