المغرب قدم للعالم العربي شيئاً مبهجاً

الساعة 2520 ديسمبر 2022آخر تحديث :
المغرب قدم للعالم العربي شيئاً مبهجاً

ليست هذه مجرد قصة كلاسيكية عن ضحية ظلم، أو قصة استعادة عالمية للجنوب ضد قوى استعمارية سابقة وخصوم تاريخيين، أو تنامي الشعور بالكرامة العربية والأفريقية والإسلامية، فبشكل يتجاوز «ميمات» الإنترنت (شعارات أو أفكار تنتشر بسرعة)، يشير أداء المغرب خلال بطولة كأس العالم العام الحالي إلى لحظة خاصة من الضعف، ووعي بالذات، وتفاؤل غير حذر لم أشهده في هذه المنطقة منذ انتفاضات 2011.

في فرنسا يشكو سياسيون ينتمون إلى تيار اليمين المتطرف، مثل إريك زمور، في برامج مخصص لها وقت مشاهدة متميز، من وجود عدد كبير من ذوي البشرة السوداء في الفريق الوطني، ويعبّرون عن استيائهم من أن الفرنسيين ذوي الأصول المغربية سوف يختارون دعم المغرب في مباراة نصف النهائي، وأنه في المغرب لن يجرؤ أحد على التلميح إلى أن الفريق الوطني لا يمثلهم بشكل ما.

ما نشعر به تجاه بطولة كأس العالم الحالية هو ما نود الشعور به تجاه سياستنا، ومستقبل أطفالنا، وموقعنا في العالم.

* * *

بقلم: إيساندر العمراني

يمثل أداء المغرب المذهل في بطولة كأس العالم، وتقدمه وتأهّله لمباراة نصف النهائي مع فرنسا، وما أحدثته من بهجة ونشوة حول العالم، لحظة خاصة بالنسبة إلى المغاربة وكثيرين غيرهم من العالم العربي وخارجه.
ليست هذه مجرد قصة كلاسيكية عن ضحية ظلم، أو قصة استعادة عالمية للجنوب ضد قوى استعمارية سابقة وخصوم تاريخيين، أو تنامي الشعور بالكرامة العربية والأفريقية والإسلامية، فبشكل يتجاوز «ميمات» الإنترنت (شعارات أو أفكار تنتشر بسرعة)، يشير أداء المغرب خلال بطولة كأس العالم العام الحالي إلى لحظة خاصة من الضعف، ووعي بالذات، وتفاؤل غير حذر لم أشهده في هذه المنطقة منذ انتفاضات 2011.
أنا آخر شخص يميل إلى الإدلاء بتصريحات مهيبة استناداً إلى حدث رياضي. خلال سنوات نشأتي في المغرب في الثمانينات، كان عدم اهتمامي بكرة القدم مطلقاً وكاملاً، فقد كنت في المدرسة الطفل الذي لا يجيد ممارسة الأنشطة البدنية، وكان آخر من يتم اختياره عند انتقاء الفرق أثناء حصة الألعاب الرياضية. وكانت أقرب نقطة للكرة بالنسبة لي حين تصيبني في مؤخرة رأسي وأنا أتحرك بلا وجهة في الملعب غارقاً في الأفكار. خلال بطولات كأس العالم، كان أصدقائي يجمعون بحماسة ألبومات صور «بانيني» للاعبي الفرق المتأهّلة لكأس العالم، في حين كنت أفضل البطاقات التي تحمل صور ديناصورات.
بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً، وتحديداً خلال الأسبوع الماضي، كنت في بيروت غارقاً في دموعي بين ذراعي نادل داخل فندق. لقد هزم المغرب إسبانيا بركلات الجزاء بعد مباراة طويلة شاقة، وتمكّن من الوصول إلى الدور ربع النهائي للمرة الأولى في تاريخ البطولة. لقد صدحت في الفندق الصيحات والتصفيق والتهليل. وقريباً في بيروت والمغرب وفي جميع أنحاء العالم العربي وجزء كبير من أوروبا، سوف يطلق مشجعو المغرب بمختلف أطيافهم أبواق سياراتهم، ويحتفلون حتى وقت متأخر من الليل. يهاتفني الأصدقاء والزملاء والأقارب أو يكتبون إليً معبّرين عن تهانيهم. لم أنم تقريباً في تلك الليلة.
مع صعود المغرب إلى دور نصف النهائي بعد هزيمة البرتغال، نرى مشاهد احتفال من أماكن دمرتها الحرب مثل غزة، علاوة على تصريحات لمسؤولين من حكومات ومؤسسات دولية تتضمن تهانيهم. وفي العاصمة الأردنية، عمّان، حيث أقيم، غيّرت شركات إعلاناتها لتستغل حالة الهوس بالمغرب. عندما أذهب إلى متجر لشراء حشية فراش، يقدمون لي «تخفيض المغرب». لقد كنت يوماً الشخص المتذمر «مفسد» بهجة كرة القدم، لكني لم أكن أفكر في أمور أخرى كثيراً خلال الأسبوع الماضي، مثل أكثر الناس في المنطقة على ما يبدو.
ليس الأمر شيفونية اعتيادية بالنسبة للمغاربة، فقد عملت البلاد بجدّ واجتهاد من أجل تحقيق ذلك، حيث أجرت إصلاحات في اتحاد كرة القدم على مدى أكثر من عقد، وتستثمر بقدر أكبر في لاعبيها. يستطيع وليد الركراكي، المدرب العقلي، أن يشرح بفصاحة وبلاغة كل قرار من القرارات التي اتخذها، مع تحليل دقيق لنقاط قوة وضعف الفريق المنافس. لم يحالف المغرب الحظ فحسب، بل هزم باستراتيجية دفاع قوي مكثف، فرقاً أكثر خبرة وتفوقاً بالعزم والإصرار، مع تحمّل عواقب كانت قاسية على لاعبيه في كثير من الأحوال، حيث عانوا من إصابات أكثر من مرة بسبب التصدي لهجمات شرسة.
هناك كثير من الأمور التي تدعو إلى الفخر، لكن الأهم من ذلك هو تحقيق نجاح مثل الآخرين في هذه البطولة الكبرى، ومشاهدة اللاعبين الذين يشبهوننا، من ذوي البشرة البيضاء والسمراء، أو ذوي الشعر المجعّد، والملامح الحادة البارزة العظام لحكيم زياش، والوجه المبتهج الوضّاء المشرق لأشرف حكيمي، والوجه الوسيم لياسين بونو، حارس المرمى الصعب الاستثارة، وهم يبلغون هذه المكانة الراقية الرفيعة على الساحة العالمية.
ما نشعر به هو شكل أكثر تطوراً من الشعور بالكرامة الوطنية، خالٍ من العقد المتعلقة بهوية المغربي «الأصيل» والمغربي «غير الأصيل». يتكون نصف الفريق من لاعبين مزدوجي الجنسية، والركراكي نفسه وُلد في فرنسا. يعود جزء من نجاح الفريق إلى قدرته على الاعتماد على لاعبين من نوادٍ أوروبية كبرى، لكن بطبيعة الحال ليس هذا هو المقصد. في فرنسا يشكو سياسيون ينتمون إلى تيار اليمين المتطرف، مثل إريك زمور، في برامج مخصص لها وقت مشاهدة متميز، من وجود عدد كبير من ذوي البشرة السوداء في الفريق الوطني، ويعبّرون عن استيائهم من أن الفرنسيين ذوي الأصول المغربية سوف يختارون دعم المغرب في مباراة نصف النهائي، وأنه في المغرب لن يجرؤ أحد على التلميح إلى أن الفريق الوطني لا يمثلهم بشكل ما.
على العكس من ذلك، يمثل ذلك تنوع المغرب، وحقيقة كونه بلداً مكوّناً من مهاجرين وعرب وبرابرة ويهود، وينظر إلى نفسه كدولة أفريقية مثلما هي دولة من دول الشرق الأوسط. قد يتنافى ذلك مع القول إنه يمكن تكريم هذا الفريق في تل أبيب من جانب اليهود المغاربة، إلى جانب رفع العلم الفلسطيني تضامناً مع الشعب المظلوم المقهور في الوقت ذاته، لكن هذا تحديداً هو جوهر فكرة الكونية والعالمية التي يتردد صداها في كثير من أنحاء العالم.
ما نشعر به تجاه بطولة كأس العالم الحالية هو ما نود الشعور به تجاه سياستنا، ومستقبل أطفالنا، وموقعنا في العالم. إنه الشعور نفسه الذي غمر نفسي في شارع الحبيب بورقيبة بتونس، وميدان التحرير في القاهرة عام 2011، وأتصور أن الشعور نفسه قد غمر نفوس كثيرين في العاصمة الجزائرية، أو بيروت، أو الخرطوم عام 2019. كانت تلك لحظات تمكّنا فيها من أن نعرض للعالم صورة مختلفة عن تلك التي نخشى أن يرانا العالم عليها سواء كانت صورة ضحايا أو متعصبين يناضلون من أجل البقاء في خضم صراعات، وإرهاب، وتدهور واضمحلال اجتماعي واقتصادي، واستبداد.
يمثل الفريق المغربي ما نود رؤية نفوسنا عليه، كأشخاص واثقين بأنفسهم، وأذكياء، ومتحمسين، ومجتهدين، ومرحين، وذوي قلوب مفتوحة. من دون النظر إلى النحو الذي قد تسير عليه الأمور، أعلم أن لحظة النشوة والابتهاج عابرة وسريعة الزوال، لكن حتى بعد انحسار حمى كرة القدم، وعودتنا إلى صراعاتنا اليومية، سوف نكون أكثر شموخاً وامتلاء بالفخر.

المصدر: الشرق الأوسط – الرياض

موضوعات تهمك:

المغرب ـ فرنسا: ما وراء الرياضة!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة