الفضاء العام السعودي الجديد

محرر الرأي24 أبريل 2019آخر تحديث :
الفضاء العام السعودي الجديد

الفضاء العام السعودي الجديد

  • يمتد نسخ بن سلمان لنموذج الامارات الفُقاعي الى إحكام سطوة السلطة على المجال العام ولا تفكير خارج إطار الدولة الاستهلاكي الترفيهي.
  • استعجال التغييرات في السعودية يظهر التبني المشوه لدول الخليج للأطر الحداثية الاقتصادية والاجتماعية.
  • التوجه “الليبرالي” لا يعني بأي شكل من الأشكال حرصُ الدولة وايمانها بفردانية المواطن أو المواطنة واستقلالهما الذاتي.
  • أعاد بن سلمان تشكيل المجال العام بما يعكس احتكاره للسلطة وانهاء مراكز القوى التقليدية ليجمعها كلها تحت مظلة مركزية واحد: الديوان الملكي.
  • الحال الراهن امتداد لهيمنة الدولة على الفرد والمجتمع مع استبدال خطاب ليبرالي بالخطاب الاسلامي واستخدام أدوات الدولة لمنع أي مجال للحركة خارج أطرها.

* * *

بقلم | موسى السادة

لا يمكن وصف التغيير الذي قام به الأمير السعودي محمد بن سلمان في الفضاء العام السعودي ب”المبالغة”، بل على العكس يشهد الفضاء العام السعودي تغييرات كبيرة ومتسارعة بنحو شكّل كما قال بن سلمان نفسه صدمة للمجتمع بكل أطيافه.

اما حماسة الأمير لتقديم رؤيته واضحة المعالم، فلا يجاري سرعتها غير المسبوقة في تغيير هيكلية الحكم في بنية الأسرة المالكة والدولة، سوى استعجاله لفرض نموذجه الليبرالي الاجتماعي، من افتتاح دور السينما واستضافة الدولة للحفلات الغنائية والمسرحية والسماح للمرأة بسواقة السيارة وتشجيع السياحة وغيرها..

وهي كلها تندرج ضمن مجهوداته التسويقية الضخمة لرسم صورته كمجدّد وإصلاحي أمام الإعلام الغربي. إلا انه وعلى الصعيد ذاته، فلا يمكن اختزال الموضوع بالأغراض الدعائية فقط. فالأمير يحاول صنع نقلة نوعية مجتمعية منطلقة من حس “انتقامي” لجيل مُعولم بأكمله، ينتمي هو نفسه له.

وهو الجيل الذي عاشر الصحوة الدينية منذ مطلع الثمانينيات الفائتة وهيمنتها على المجال العام، بشكل عبّر عنه محمد بن سلمان بلسانه عندما قال اننا “لن نضيّع ثلاثين سنة اخرى”.

لذلك لا يمكن نعت جميع حالات الدعم الداخلية للأمير بـ”التطبيل” أو بأنها منطلقة من الخوف، بقدر ما تمثل فعلاً تطلعات كثير من الشباب والشابات، خصوصاً المنتمين منهم الى الطبقة الوسطى العليا، والذين لم تؤثر فيهم (حتى الآن) اجراءات الخصخصة الإقتصادية.

ان الشعور بالأسف على تلك السنين لا ينحصر باللفظ فحسب، بل يظهر للعيان بأشكال مادية خصوصاً عند مراقبة فعاليات ما يطلق عليها “هيئة الترفيه” برئاسة تركي آل الشيخ، أحد أعمدة العهد السعودي الجديد، حيث انه يلاحظ أن تلك الفعاليات تحاول إعادة انتاج برامج واحتفاليات قديمة مُنعت في تلك العقود ليعاد اقامتها الآن.

بل ان هذه الحسرة، وحتى التسرع في محاولة صنع التغيير، تنعكس ايضاً على المشاريع الكبرى من مدن اقتصادية وترفيهية ضخمة، التي وإن استحالت سرعة انشائها المادي الواقعي على الأرض، إلا أن انشاءها الإفتراضي، وبالتحديد على منصة تويتر، وبحسابات موثقة صار ممكناً، خصوصا مع الأخذ بالاعتبار ان تويتر في السعودية هو بالنسبة للعهد الجديد ممثل حقيقي ورسمي للمجال العام.

لذلك تنتشر هذه المشاريع التي لا وجود مادي لها، بل ولا يسمح الوضع الإقتصادي بالبدء بمعظمها.. الا ان وجودها الافتراضي حاضر بقوة. ومن هنا من الممكن رؤية سبب رغبة الأمير المتهورة (والتي استحال تحقيقها حتى الآن) لبيع شركة أرامكو توفيراً للسيولة الضخمة بغاية بناء هذه المشاريع.. بشكل عبر عنه بن سلمان بقوله “Shortcut” ومعناه “اختصار الطريق”.

لكن هذا لا ينفك عن كونه مثالاً عن أوجه التبني المشوّه لدول الخليج لأي من الأطر الحداثية سواء الاقتصادية أو الاجتماعية، حيث أن هذا التوجه الليبرالي لا يعني بأي شكل من الأشكال حرصُ الدولة وايمانها بفردانية المواطن أو المواطنة واستقلالهما الذاتي.

بل وعلى العكس تماماً، فإن الأمر هو امتداد لهيمنة الدولة على الفرد والمجتمع، لكن مع استبدال الخطاب الاسلامي السابق بخطاب ليبرالي، تُستخدم فيه هو الآخر أدوات الدولة لمنع اي مجال للحركة خارج الأطر التي تصيغها الدولة نفسها حصراً. ولا يقتصر ذلك على مجال الحرية السياسية بل يطال حتى الجوانب الشخصية المحضة.

الثابت والمتغير في هامش الحركة بالمجال العام

تاريخياً، الدولة في السعودية ومؤسساتها الشمولية، يشكلان المجال العام. لذلك فنوع الحركة المتاحة للمواطنين ودرجة الهامش المتروك لهم غير ثابتين على مدى العقود، بل يرتهنون برغبة الدولة، بالإضافة الى ارتهانهم للجو السياسي العام للمنطقة العربية.

في ضوء هذا يمكن قراءة التحولات الطارئة على الفضاء السعودي منذ قيام الدولة على يد عبد العزيز وانقلابه على “اخوان من اطاع الله” بعد ان ساعدوه في الوصول للحكم، ثم الهزة التي انتجتها الحركة الناصرية في سعود وفيصل، وصولاً للموجة الإسلامية واحتكارها للمجال العام في العهد القصير لخالد وبعده خلال حكم فهد.

ومن الممكن ملاحظة كيفية استخدام آل سعود لادوات الدولة في صياغة المجتمع وتشكيله بشكل مختلف كل ثلاثة عقود تقريباً.

وكان من عادة هذا التشكيل أن ينطلق من جملة توافقات من داخل مراكز القوى المختلفة في العائلة، الا انه وتحديدا بعد موت الملك فهد واستلام الملك عبد الله للحكم ومحاولته تبني نموذج سمي بـ”الاصلاحي”، فقد اختلفت هذه التوافقات بين الرغبة الليبرالية للديوان الملكي الممثل بالملك ورئيس الديوان خالد التويجري، ورؤية وزير الداخلية الأمير نايف الذي تمسك بدعمه للتيار السلفي.

وتحول الامر الى حد بعيد الى صراع على الارض بين جناح الملك عبد الله وجناح الأمير نايف، وبين جرائد رسمية تميل لكل طرف، وصولاً الى فتاوي تنتقد اجراءات عبد الله كعمل النساء أو بناء أول جامعة سعودية مختلطة للجنسين.

هذا الاختلاف بين مؤسسات الدولة أنتج هامشاً كبيراً نسبياً من الحركة في المجال العام بلغ اوجه مع بداية التحركات الجماهيرية العربية، بشكل لم ينهِ القمع لكنه رسم خطوطاً حمراء واضحة المعالم لما هو ممكن أو لمجال التحرك تحت سقفها.

استمر هذا الامر إلى لحظة إحكام محمد بن سلمان لسيطرته على مقاليد الحكم ووصوله لولاية العهد وانقلابه على ابن عمه، ليعيد تشكيل المجال العام بشكل غير مسبوق يعكس واقع احتكاره للسلطة وانهاء جميع مراكز القوى التقليدية من حرس وطني ووزارة الداخلية لجمعها كلها تحت مظلة مركزية واحد وهي الديوان الملكي.

وهذا الامر أنهى هامش الحركة السابق بشكل سريع جداً لم يسمح للكثيرين بالتأقلم معه، لتبدأ حملات اعتقالات ضخمة طالت بداية الاخوان المسلمين الذين استغلهم في البداية للتصفيق لحربه في اليمن، تحت مسمى “عاصفة الحزم” ومن ثم قام بتصفيتهم في حملة الإعتقالات الاولى في أيلول/ سبتمبر 2017 لتلحقها حملة ايار/ مايو 2018 واعتقال الناشطات في الحراك النسوي، حيث ركب موجة نضالهن، وصولاً الى قضية خاشقجي التي أوقفت زخم الحملات الى ان عادت أخيراً عبر اعتقال مثقفين وكتاب عروبيين في آذار/ مارس 2019.

هذه الحملات لم تقتصر على من يغرد خارج اطار الدولة بل حتى على من انكفأ عن المجال العام في اوقات مبكرة. فقد تمت عملية اعتقالهم بأثر رجعي في محاولة للقضاء على أي جيوب لا زالت تفكر ولو في مجالها الخاص.

وهكذا تمتد عملية نسخ الأمير للنموذج الاماراتي الاقتصادي الفُقاعي الى عملية نسخ تام لعملية إحكام سطوة السلطة على المجال العام في البلاد وانه لا يمكن لأي كان التفكير خارج الإطار الاستهلاكي الترفيهي الذي ترعاه الدولة، ليصل الأمر حرفياً الى واقع ان مجرد الحديث في السياسة بغض النظر عن التوجه هو جريمة بحد ذاتها.

* موسى السادة كاتب من السعودية وباحث في الاجتماع.

المصدر: السفير العربي

موضوعات تهمك:

أين المفرّ من الدين والبطالة في السعودية؟ 

السعودية: تمثيل الإسلام وإنكار المسلمين

لماذا نجحت عزيزة اليوسف وفشلت الحكومة السعودية؟

المقاومة السلبية: لماذا يعطل الموظفون في السعودية إصلاحات محمد بن سلمان

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة