الطريق الذي لم تسلكه الصين

الساعة 259 أكتوبر 2022آخر تحديث :
الصين

في 18 يناير (كانون الثاني) 2005، في الصفحة الرابعة من صحيفة الشعب اليومية “بيبولز دايلي”، الصحيفة الرئيسة للحزب الشيوعي الصيني، في زاوية بعيدة من الأنظار فوق تقرير عن حال الطقس، كتب نص من ثلاثة أسطر ينقل خبر وفاة رجل مسن، وجاء فيه “عانى الرفيق زهاو زيانغ مدة طويلة من أمراض في الجهاز التنفسي وجهاز القلب والأوعية الدموية، ونقل إلى المستشفى مرات عدة، وبعد تدهور حاله أخيراً، تعذر إنقاذه. وتوفي في 17 يناير في بكين عن عمر يناهز 85 سنة”.

من المؤكد أن قارئ الصحيفة العادي معذور لعدم ملاحظته هذا الخبر، بيد أن هذا النعي المختصر شكل أمراً ملفتاً للنظر، وذلك بشكل أساسي لما أغفل ذكره. إذ لم يتطرق إلى أن زهاو تولى أعلى منصبين قياديين في الصين، إذ شغل زهاو أولاً منصب رئيس مجلس الدولة ثم صار أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني. كذلك لم يعترف النعي بأن الراحل قدم أية مساهمات في مبادرة “الإصلاح والانفتاح” في الصين التي كونت آنذاك جدول أعمال التنمية الاقتصادية والانفتاح على العالم الذي اتبعته الصين خلال الفترة التي تلت وفاة الزعيم الصيني الشهير ماو تسي تونغ في عام 1976. وآنذاك، حينما نشر النعي في عام 2005، كان شعار “الإصلاح والانفتاح” لا يزال يمثل محور السياسة الرسمية في عام 2005، حتى أنه استخدم 12 مرة في الصحيفة ذاتها ذلك اليوم. في المقابل، لقد حذف فعلياً الدور الأساسي الذي لعبه زهاو في تشكيل هذا الشعار من الروايات الرسمية حول تلك الفترة. في الواقع، قبل وفاة زهاو بفترة طويلة، أعاد الحزب الشيوعي الصيني، بصورة كاملة، كتابة تاريخ الصين المتعلق بفترة الثمانينيات من القرن الـ20 على رغم كونها عقداً مضطرباً وتحولياً. وأخضع ذلك التاريخ لتشويه واسع النطاق، على رغم أنه اعتبر أكثر الفترات أهمية في تاريخ البلاد.

وتجدر الإشارة إلى أن ذاك التعديل التاريخي لم يعتمد الحكاية الرسمية الاعتيادية المعروفة، على غرار إنكار القمع العنيف لاحتجاجات “ميدان تيانانمن” في عام 1989، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. لقد طمس حكام الصين بشكل منهجي عدداً من أهم أجزاء فترة الثمانينيات تلك، على رغم أنها شهدت بداية التفكير علناً في إصلاحات سياسية رئيسة، ومناقشات عن المسارات الاقتصادية البديلة [للاقتصاد الشيوعي التقليدي الذي اتبع أيام ماو تسي تونغ]، والترحيب بالتأثيرات الخارجية، والتشجيع على السجال السياسي من أجل تحقيق نتائج أفضل وغيرها.

وعوضاً عن ذلك، روى الحزب الشيوعي الصيني قصة مظفرة عن قرارات حكيمة وحاسمة دفعت صعود الصين، عبر تشكيلها المسار الصحيح الوحيد للبلاد، مما أسهم في تعزيز شرعيته. لكن قادة الحزب لم يكتفوا بفرض رقابة على التاريخ من أجل حماية أنفسهم، بل عملوا أيضاً على صياغة مستقبل الصين بعد حقبة الثمانينيات تلك، من خلال عدم الكتابة عن أي قوى تدفع باتجاه اختيار مسارات بديلة، مما حد بشكل كبير من نطاق المسارات المحتملة التي كان يمكن أن تتخذها البلاد. بالتالي، سعى الحزب [عبر إعادة كتابة تاريخ تلك الفترة] إلى إنهاء أية حال من عدم اليقين بشأن الطريقة التي يتعين على الصين استخدامها من أجل مواكبة العصر. ويتوافق ذلك مع ما كتبه الروائي الشهير جورج أورويل في رواية “1984”، “من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل. ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي”.

واليوم، تضبط الصين بصرامة أية صيغة عن تاريخها تتعارض مع الرواية الرسمية. وفي ذلك الإطار، أدخلت الحكومة عقوبات جديدة على جريمة ما يسمى بـ”العدمية التاريخية”. كذلك، جرمت القوانين “الافتراء” على الأشخاص الذين يعتبرون رسمياً أبطالاً وشهداء للحزب الشيوعي الصيني، وكذلك منعت الكتابة العلنية عن الإصلاحات السياسية التحررية السابقة. ووصل الحظر إلى حد أن المنظمين الصينيين منعوا أحد تطبيقات الألعاب باعتباره “يشوه التاريخ”. إذاً، يقدم التوسع في تاريخ فترة الثمانينيات أحد أبرز الأمثلة على ما يرفض الحزب التهاون معه. وتجدر الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي الصيني لم يترك أدنى شك في أنه يعتبر أن التاريخ يشكل المادة الأساسية في السياسة الصينية، إذ أصدر قراراً مهماً بشأن تاريخ الحزب في الذكرى المئوية لتأسيسه في عام 2021.

ولا شك في أن حكومات أخرى أعادت كتابة التاريخ، بل لطالما فعلت ذلك، سواء من ما سمي في روما القديمة بـ”دامناتيو ميموريا”، أي لعنة الذاكرة، [عقاب “لعنة الذاكرة” يعني إزالة كل المعلومات عن الخونة مثلاً فكأنما يجري محوهم من ذاكرة الناس]. وقد ترافق عقاب “لعنة الذاكرة” مع تدنيس أسماء النخب والأباطرة بعد موتهم. وينطبق ذلك أيضاً على لجوء الاتحاد السوفياتي إلى تعديل الصور الفوتوغرافية مزيلاً منها المسؤولين الذين جرى التخلص منهم خلال حملات التطهير [شملت حملات التطهير التخلص ممن اعتبرهم الحزب الشيوعي السوفياتي أعداء لهم، سواء داخل صفوفه أو في أنحاء البلاد كلها]. إن الأساطير الوطنية، ووحشية الإمبريالية والعنصرية والاستبداد التي عمد السوفيات إلى حذفها، تعد أموراً أساسية في الحياة العامة في مجموعات من البلدان تمتد من الولايات المتحدة ووصولاً إلى جنوب أفريقيا ثم أوروبا الشرقية. طوال قرون، أعاد حكام الصين كتابة التاريخ، مع بذل جهود سياسية كبيرة مكرسة لصياغة سجلات السلالات وقمع الروايات البديلة. ومن أجل فهم الصين المعاصرة اليوم، من المهم أكثر من أي وقت مضى أن نفهم كيف أن السيطرة على التاريخ هي التي ترسم سياسات تلك الدولة.

وما يسمى اليوم “نموذج الصين” يتمثل في نمو اقتصادي سريع مقترن بالسيطرة السياسية الاستبدادية، لكنه لم يكن الرؤية المستقبلية الوحيدة التي سعى إليها قادة الصين بعد وفاة ماو تسي تونغ. في الحقيقة، لقد تخيل أولئك القادة وجربوا عدداً من النماذج المحتملة للصين أثناء حقبة الثمانينيات، بيد أن حكام الصين عملوا بجد على إخفاء هذه القصة الكاملة. وهكذا جرى تشويه أحد أهم التحولات في القرن الـ20 من أجل تعزيز شرعية المسار الذي اختاره الحزب الشيوعي الصيني.

 

حقبة من الانفتاح

في الروايات الشائعة حول العالم، وكذلك في الرواية الرسمية التي تعتمدها الدولة، يجري التعامل مع حقبة الثمانينيات في الصين عادة على أنها فترة تغيير خطي مستمر ينتقل من صعود دينغ خسياو بينغ إلى السلطة في عام 1978 وبداية “الإصلاح والانفتاح”، إلى آفاق جديدة من الثروة والتحديث. في هذه الرواية، اعتبرت الإجراءات القاسية لوقف احتجاجات “ميدان تيانانمين” عام 1989 بمثابة انقطاع قاس، على أبعد تقدير، قبل استئناف ذلك السرد الخطي [أي سردية نمط التصاعد الخطي التي اعتمدها الحزب الشيوعي الصيني] في عام 1992، حينما ضغط دينغ خلال “جولته الجنوبية” الشهيرة في البلاد، من أجل تسريع الإصلاح الاقتصادي مما وضع الدولة على طريق التحول إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. بالتالي، تعمل تلك السردية الخطية على إظهار فترة الثمانينيات كأنها مسيرة دؤوبة في صعود الناتج المحلي الإجمالي ليكون أشبه بالجبل الشاهق، تحت إشراف دينغ صاحب اليد الممدودة لفعل الخير.

في المقابل، إن هذه القصة هي أسطورة. والمسار الذي سلكته الصين لم يكن محتوماً. في الواقع، شكلت حقبة الثمانينيات في الصين فترة من التنافس والخيال غير العاديين اللذين لا حدود لهما. وآنذاك، تجادلت النخب الصينية بشدة حول المستقبل. وبطريقة موازية، توسعت الأيديولوجية الرسمية والسياسة الاقتصادية والتحول التكنولوجي والإصلاحات السياسية في اتجاهات متعددة جديدة وجريئة. لم يجر اتباع مشروع عظيم أو خطة معينة، بل انخرط المخضرمون في الحزب، أي دينغ خسياو بينغ وتشن يون ولي تشيانيان، مع والقادة الأصغر سناً ممن يعملون بصورة مباشرة مع أعضاء الحزب والناس من أمثال زهاو زيانغ وهيو ياوبانغ، في نقاش عن الأفكار والسياسات. وتغيرت أنماط التنظيم الاقتصادي والاجتماعي على أرض الواقع. ومع حلول الوقت الذي تدفق فيه الطلاب المحتجون إلى ساحة “تيانانمين” في ربيع عام 1989، لم تكن القيادة قد توصلت بعد إلى توافق في الآراء.

الصين

لم تشكل وجهات نظر كبار القادة سوى أحد مصادر التغيير خلال حقبة الثمانينيات من القرن الـ20. بالاسترجاع، عاد ملايين الأشخاص الذين تعطلت حياتهم وتعليمهم بسبب الثورة الثقافية إلى العمل والمدرسة في أواخر السبعينيات من ذلك القرن، وسعوا إلى المشاركة في التحديث الحر للصين. وسجل الناتج القومي الإجمالي نمواً فائق السرعة، غالباً بما يزيد على 10 في المئة سنوياً. وانخفض عدد سكان الريف الذين يعيشون تحت خط الفقر الرسمي من 250 مليوناً في بداية العقد إلى 96 مليوناً مع حلول عام 1988.

واستطراداً، تميزت كل خطوة في ذلك الطريق بالنقاش السياسي والتسويات الصعبة. وسارت الحياة الفكرية بسرعة محمومة، إذ إن الأفكار والاتجاهات المثيرة للجدل اجتاحت بكين وجميع أنحاء البلاد. ومثلاً، في عام 1983، أصبح زهاو مفتوناً بكتاب “الموجة الثالثة” الذي وضعه ألفين توفلر وفكرة الثورة التكنولوجية الجديدة العالمية، وحققت كتب التنبؤ بالمستقبل أعلى نسبة مبيعات. وبعد أقل من عقد على وفاة ماو، امتلأت المنشورات الدورية بالمقالات المتنافسة حول الأسئلة المثيرة للجدل كأهمية نظرية كارل ماركس عن الاغتراب [الاستلاب، وهو وضع من الغربة المركبة بين الإنسان والانتاج والسلع والعمل والمجتمع]، وإذا كانت الكونفوشيوسية التقليدية قد أعاقت تحديث الصين.

 

طمس حكام الصين بشكل منهجي عدداً من أهم أجزاء فترة الثمانينيات من القرن الـ20

 

وفي تلك الحقبة، شكلت إصلاحات النظام السياسي في الصين الموضوع الأكثر جذباً للاهتمام والنقاش. على رغم أن دينغ قد حدد “المبادئ الأساسية الأربعة” التي ينادي بها، وهي القضايا السياسية التي لن يسمح بتغييرها، فقد وصف أيضاً النظام السياسي الصيني آنذاك [في فترة ما بعد وفاة ماو] بأنه متخلف، ومثقل بالتأثيرات “الإقطاعية” و”البيروقراطية”، مما فتح الباب أمام مزيد من النقاش.

بالنسبة إلى كثيرين من كبار المسؤولين، كانت الإصلاحات السياسية مرتبطة بشكل حتمي بأجندة الإصلاح الاقتصادي في الصين.

في البداية، جرب هيو ياوبانغ وزهاو زيانغ إصلاحات محدودة وإدارية إلى حد كبير، إذ أعطيا الأولوية لتنظيم الأجهزة الحكومية وتحسين الكفاءة، مع مكافحة الفساد في الوقت نفسه. ولكن مع اكتساب زهاو خبرة في القيادة المركزية، نمت طموحاته، وأضحت أولويته متمثلة في الفصل بين الحزب والحكومة، من أجل زيادة المساءلة والشفافية والكفاءة. لكنه لم يكن وحده في تجربة تلك الإصلاحات. في عام 1986، أشار دينغ خسياو بينغ إلى أنه “حينما نتحرك خطوة إلى الأمام في الإصلاح الاقتصادي، فإننا ندرك تماماً الحاجة إلى تغيير الهيكل السياسي. وإذا فشلنا في ذلك، فلن نتمكن من الحفاظ على المكاسب التي حققناها في الإصلاح الاقتصادي والاستفادة منها، سيتوقف نمو القوى المنتجة وسيتعرقل سعينا إلى التحديث”.

واستكمالاً، قدمت تلك النقاشات التحرر الاقتصادي والتحرر السياسي باعتبارهما متشابكين بعمق، بل يعزز كل منهما الآخر. ورأى كثيرون من المسؤولين والمفكرين أن هذه التحولات مرتبطة بالإصلاحات السياسية الجارية في أماكن أخرى من العالم الاشتراكي في تلك الآونة، بما في ذلك إصلاحات الرئيس ميخائيل غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي. في 14 أكتوبر (تشرين الأول) 1987، أورد زهاو زيانغ أن “الفصل بين الحزب والحكومة في الدول الاشتراكية، يشكل نزعة كبيرة”. وعلى رغم ذلك، فقد أصيب بعض مسؤولي الحزب الشيوعي الصيني بالرعب من فكرة فرض قيود جديدة على سلطتهم. وأكد دينغ خسياو بينغ أن “الفصل الثلاثي للسلطات” أمر غير مقبول على الإطلاق. [إشارة إلى فصل السلطات في النظم الديمقراطية إلى تشريعية وتنفيذية وقضائية، مع التوازن بينها].

في الواقع، جاء التفكير السياسي الجريء من المثقفين المستقلين وكبار مسؤولي الحزب. ومثلاً، ألقى نائب رئيس مجلس الدولة وان لي خطاباً في يوليو (تموز) 1986 دعا فيه قادة الحزب الشيوعي الصيني إلى “تكوين صداقات وثيقة مع بعض المعارضين”. وصرح “أعتقد أنه ينبغي علينا إزالة الحظر على حرية التعبير وتشجيع إبداء الرأي الحر. يجب أن ندع الناس يمارسون فعلاً حقهم الدستوري في حرية التعبير. هذا البلد الاشتراكي الكبير الذي يبلغ عدد سكانه مليار شخص، لن يسقط ببضع كلمات مزعجة أو تصريحات تحريضية”. وقد أشاد بعض كبار المسؤولين بهذا الخطاب، ونشر على الصفحة الأولى من صحيفة “بيبولز دايلي”، وشغل الجزء العلوي كله، وهو القسم الأكثر بروزاً في تلك الصفحة. ولم تأت تلك الرسالة من دخيل راديكالي على النظام، بل من نائب رئيس مجلس الدولة، وقد بثت للشعب من خلال الوسيلة الناطقة بلسان الحزب [صحيفة بيبولز دايلي]. وبلغ الأمر إلى حد أن زهاو ناقش إصلاحات في عام 1987 تضمنت “فتح جميع أنواع المشاورات الديمقراطية المسموح بها والحوار الاجتماعي الحيوي”، إضافة إلى “القضايا الانتخابية” بما في ذلك الانتخابات على مستوى المقاطعات. لم تكن هذه ديمقراطية ليبرالية في طور التكوين، بل كانت دولة استبدادية تختبر إصلاحات ذات مغزى لنظامها السياسي.

بلغت تلك الفترة الحافلة بالنقاش الرسمي حول إصلاح النظام السياسي ذروتها في المؤتمر الحزبي الـ13 عام 1987، الذي أيد إصلاحات مماثلة باعتبارها ضرورية من أجل مستقبل تحديث الصين. وبعد الاجتماع، اتخذت القيادة إجراءات ترمي إلى الفصل بين صنع القرار وبين اتخاذه في الحكومة، بما في ذلك إلغاء إمكانية شغل منصب حزبي رفيع المستوى ومنصب حكومي في الوقت ذاته، وإنهاء تدخل أجهزة الحزب في العمل الحكومي، وفصل التنظيم الحزبي ونظام الموظفين الحكوميين، وإزالة خلايا الحزب في عدد من المنظمات أو الحد من أهميتها، واتخاذ الخطوات الأولية من أجل إنشاء نظام الخدمة المدنية. كذلك أطلقت الحكومة عدداً من المبادرات البارزة في زيادة الشفافية والمساءلة، شملت مشاريع تجريبية ضمن بكين وشنغهاي، وسعت إلى تعزيز حرية الصحافة التي كانت محدودة. وهكذا شكلت الأفكار الجديدة حول الديمقراطية والاستبداد والتحديث موضوع نقاش مهم. في بداية عام 1989، كانت المسارات المحتملة للإصلاح السياسي في الصين متعددة ومتنازع عليها بشدة.

تغير ذلك كله في 15 أبريل (نيسان) 1989، حينما توفي بشكل غير متوقع، هو ياوبانغ صاحب العقلية الليبرالية، بعد عامين فحسب من إقالته من منصبه كأمين عام للحزب الشيوعي الصيني. حينذاك، نظم الطلاب مسيرات إلى “ميدان تيانانمين” في بكين حداداً عليه، وسرعان ما تطور ذلك إلى حركة جماهيرية تدعو إلى الديمقراطية والمساءلة والإصلاح بشكل أسرع. واحتل المتظاهرون الساحة طوال أسابيع. وتفاقم الوضع بعد أن كتبت افتتاحية في صحيفة “بيبولز دايلي” تصف التحرك بأنه “مؤامرة مخطط لها” و”اضطراب”. ودعا بعض كبار القادة إلى فرض الأحكام العرفية، فيما عارض آخرون ذلك بقوة، أبرزهم زهاو زيانغ. وحينما أماط المتظاهرون النقاب عن تمثال أطلقوا عليه اسم “إلهة الديمقراطية” في الميدان، خسر زهاو الصراع على السلطة في القمة. فخرج إلى الميدان واعتذر من المتظاهرين، “يا طلاب، لقد جئنا بعد فوات الأوان. آسف أيها الطلاب. نحن نستحق كل ما تقولونه وتنتقدونه بشأننا”.

فرض حكام الصين الأحكام العرفية، ووضعوا زهاو تحت الإقامة الجبرية، ووعدوا بـ “إجراءات حازمة وحاسمة تضع حداً للاضطراب”. وسمحوا للجنود باستخدام القوة من أجل إخلاء “ميدان تيانانمين” و”إعادة فرض النظام” في بكين، ما أدى إلى وقوع مجزرة. وأثناء جلوس زهاو في فناء منزله الذي تحول إلى سجن، كان يسمع صوت إطلاق النار في الشوارع.

الصين

العودة إلى المستقبل

أثناء اتخاذهم إجراءات صارمة، أطلق البقية من قادة الصين رواية جديدة أيضاً حول حوادث الثمانينيات وما تعنيه بالنسبة إلى مستقبل الصين. بالنسبة إلى الحزب الشيوعي الصيني، فإن تلك الفترة في عام 1989 التي قلصت إلى بضعة أشهر، بحسب صيغة إحدى الوثائق الدعائية، “شكلت فترة تاريخية مهمة، تناولت مشكلات متعددة وشهدت تغييرات سريعة في فهمنا، لدرجة لا يمكن تصورها”.

وقد جرى تصميم سرد الحوادث هذا من أجل خدمة أجندة الصين في فترة ما بعد حوادث تيانانمين. وعمل قادة الحزب الشيوعي الصيني على محو زهاو زيانغ، وجادلوا لمصلحة الضرورة المطلقة لدمج الحزب والدولة، وتخلوا عن كثير من الإصلاحات السياسية التي اتبعت أثناء ثمانينيات القرن الـ20، من بين تغييرات أخرى. والجدير بالذكر أن هذه العملية تجاوزت تأديب الكوادر ممن تعاطفوا بشدة مع المتظاهرين و”الانكماش” الاقتصادي الذي بدأ في أواخر عام 1988 بسبب التضخم الشديد والمحاولة الفاشلة لإصلاح الأسعار. وقبل استبدال الأحجار التي انطبعت عليها آثار عجلات الدبابات التي مرت في “ميدان تيانانمين”، طرحوا نسختهم الجديدة من ماضي الصين، وبذلك أعادوا صياغة مستقبلها.

وتركز الجانب الأكثر جوهرية في تلك الإعادة لكتابة التاريخ، على الفصل المنهجي بين الإصلاحين السياسي والاقتصادي. في الواقع، أعاد الحزب الشيوعي الصيني تفسير حقبة الثمانينيات من القرن الـ20 كي تظهر بوصفها صراع استمر 10 سنوات بين مبادئ دينغ خسياو بينغ الاستبدادية الأربعة والبعبع [الوحش الخرافي] المتمثل في “التحرر البرجوازي”، الذي كان يعني بالنسبة إلى دينغ نفسه، جميع الأشكال التي لا تطاق من التحرر السياسي والاجتماعي والأيديولوجي. كذلك اعتبر دينغ أن النمو المدعوم من السوق يشكل الهدف الصحيح للاقتصاد، بيد أن التفكير المفتوح في تحرر المجتمع بشكل أوسع، بين المثقفين وحتى بين كبار المسؤولين خلال الثمانينيات، يمثل خطأ فادحاً. والآن، يرفض الحزب بشكل قاطع أفكار التجريب، والنطاق غير المحدود، وعدم اليقين التي تبناها في السنوات السابقة.

وفي اجتماع سري عقد بين 19 و21 يونيو (حزيران) 1989 من أجل مناقشة “الاضطراب” ومصير زهاو زيانغ، منح هذا الأخير الفرصة للتحدث دفاعاً عن نفسه. وأصر على أن الفصل بين التحررين السياسي والاقتصادي سيكون خطأ جسيماً. وبحسب رأيه، “الإصلاح يشمل إصلاح النظامين الاقتصادي والسياسي، إذ إن هذين الجانبين يؤثران في بعضهما بعضاً. إذا تخلف [إصلاح النظام السياسي] كثيراً عن الركب، فسيكون الاستمرار في إصلاح النظام الاقتصادي صعباً للغاية وسيترتب على ذلك تناقضات اجتماعية وسياسية مختلفة”.

 

تضبط الصين بصرامة أية سردية عن تاريخها تتعارض مع الرواية الرسمية

 

في المقابل، لم تتلق تعليقات زهاو زيانغ آذاناً صاغية. ولم تترك الرواية الرسمية الجديدة التي أطلقت بعد “الاضطراب” أي مجال لمثل هذا الانفتاح بشأن النظام السياسي في الصين أو للسياسات المصممة من أجل الحد بشكل كبير من قوة الحزب. وبحسب توجيه عمم في 13 سبتمبر (أيلول) 1989، رسمت الخطوط الجديدة متضمنة إن “إصلاح النظام السياسي يجب أن يفضي إلى تعزيز قيادة الحزب وتحسينها. ولا يجوز بأية حال من الأحوال أن يقلل من شأن قيادة الحزب أو يضعفها، ولننح جانباً أمر إلغائها”.

بعد ذلك بوقت قصير، بدأ جهاز الدعاية (بروباغندا) في محو زهاو زيانغ من السجل التاريخي. لم ينحصر ذلك في التقليل من أهمية دوره أو انتقاد بعض سياساته، حتى أنه تجاوز عقوبة إبقائه رهن الإقامة الجبرية في بيته. لقد كان جهداً شاملاً يرمي إلى ضمان إمكان سرد تاريخ الصين في ثمانينيات القرن الـ20 من دون ذكر الرجل الذي قاد البلاد طوال ذلك العقد بأكمله. وفي ذلك الإطار، أرسل تعميم دعائي للناشرين في جميع أنحاء البلاد في 7 أغسطس (آب) 1989، يقدم تعليمات مفصلة حول كيفية محو زهاو. وتضمن ذلك حظر الكتب الجديدة عنه، والمطالبة بإتلاف السير الذاتية الموجودة له، وتوجيه أمر للناشرين بحذف اقتباساته من الوثائق كلما أمكن ذلك، وفي حال تعذر ذلك، “يجوز الاحتفاظ بالمواد المقتبسة، لكن لا ينبغي أن تتضمن اسمه الشخصي”. إضافة إلى ذلك، لم يعد يسمح للكتب والمجلات “بنشر صور للرفيق زهاو زيانغ. وتزال صوره من الكتب المعاد طباعتها أو نشرها”.

لقد راقب زهاو زيانغ ما يحصل من داخل حديقته المحاطة بالأسوار، فرأى نفسه يتحول إلى شخص مجهول تاريخياً، غير مرئي في الروايات الرسمية المتعلقة بتلك الحقبة التي عمل على بتشكيلها، وشاهد كيف أنه اعتبر شخصاً لا علاقة له بمستقبل الصين. وبينما فكر حكام الصين خلال ثمانينيات القرن الـ20 في أشكال متعددة من التحرير والتحديث، فقد باتوا الآن يعيدون إلزام أنفسهم بمسار جديد أضيق وأكثر سلطوية. ولم يعد من المسموح إجراء إصلاحات سياسية إلا إذا كانت تخدم هدف تقوية الحزب الشيوعي الصيني. وبغض النظر عن درجة رسميتها أو موثوقيتها، فقد أسكتت الأصوات البديلة، وكذلك الحال بالنسبة إلى التاريخ البديل.

في ذلك الإطار، أوضح جيانغ زيمين، الذي خلف زهاو زيانغ كأمين عام للحزب الشيوعي الصيني، في أواخر عام 1989، “إن معرفة بعض الأمور وإتقانها يجب أن يكونا محصورين بشريحة معينة من الناس. أما تحديد المسائل التي يمكن أن تتسم بالشفافية وتلك التي ينبغي أن تكون بعيدة من الوضوح والشفافية [أي كل شيء]، فذلك شأن يعتمد على مدى ما يؤدي إليه من الاستقرار الاجتماعي والاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي والاستقرار في قلوب الناس”.

وفي خريف عام 1989 والسنوات التالية، استمر هذا التصحيح واتسع نطاقه. بالنسبة إلى قيادة الحزب الشيوعي الصيني، ازدادت المخاطر مع سقوط جدار برلين واكتساح التغييرات السياسية أنحاء أوروبا الشرقية جميعها. وفي ذلك السياق، ذكر دينغ خسياو بينغ، “طالما أن الاشتراكية لا تنهار في الصين، فستظل صامدة في العالم”. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي بشكل خاص، رأى حكام الصين أن بلادهم كانت الناجية الاشتراكية الوحيدة في عالم رأسمالي خطر.

 

المسار الذي سلكته الصين لم يكن محتوماً

 

وقد تشكل أعداؤهم الجدد من محليين وأجانب. ومن بين الأشرار المتصورين، الممول المجري الأميركي جورج سوروس الذي اتهم بالتآمر مع مستشاري زهاو زيانغ من أجل الترويج لـ”التطور السلمي” الصيني من الاشتراكية إلى الديمقراطية الرأسمالية. محلياً، تفشت عمليات التطهير الأوسع للمفكرين والمسؤولين والعمال من أصحاب التفكير الخاطئ، وطغى عليها الطابع الوحشي والسري إلى حد كبير.

في عام 1992، بعد أن ترسخت تلك التغييرات، ذهب دينغ خسياو بينغ في جولته الجنوبية الشهيرة، وزار مناطق اقتصادية خاصة على الساحل الجنوبي الصيني من أجل إحياء الإصلاح الاقتصادي وتسريعه، لكنه لم يبد أي اهتمام بالابتعاد عن الرواية الرسمية الجديدة حول تحديث الصين. وبغية النجاح في هذا المسار، استمر الحزب الشيوعي الصيني في متابعة النمو الاقتصادي السريع من دون تحرير سياسي كبير، مروجاً لفكرة أن هذا الترتيب يشكل المسار الوحيد القابل للتطبيق في الصين، ومعيداً كتابة التاريخ من أجل إخفاء حقيقة أن الصين سعت إلى إيجاد بدائل.

 

إرث محظور

مع انطلاق النمو الاقتصادي في الصين مرة أخرى، بدا نجاحه مذهلاً لدرجة أن المعلقين تعاملوا بشكل متزايد مع تشعب التحرر السياسي والاقتصادي في الصين باعتباره أمراً حتمياً وطبيعياً. وانتشرت صورة الصين كنموذج “أفضل من الديمقراطية” و”نسخة أكثر ثراء من سنغافورة وأكبر منها بكثير”، نتاج نظام أطلق عليه الصحافي الأميركي نيكولاس كريستوف بشكل فظ “لينينية السوق” في عام 1993.

وعلى رغم ذلك، من الناحية التطبيقية، ظل الانهيار السوفياتي يطارد الحزب الشيوعي الصيني، الذي رأى أن التنمية الاقتصادية واستمرار هيمنته على المجتمع والجيش والسرد التاريخي، تشكل مفاتيح النجاح. وظل الحزب الشيوعي الصيني قابلاً للتكيف، وفي بعض الأحيان تجريبياً، في استراتيجيات الحكم التي اعتمدها، بيد أن تلك التعديلات جاءت في الغالب على هيئة تنقيحات للاستبداد.

ماذا عن التاريخ المحظور للصين في ثمانينيات القرن الـ20؟ على رغم التحديات المتعددة، لم يتوقف بعض الكتاب الصينيين عن محاولة توثيق الماضي. وهم يستخدمون الإسهاب الاستراتيجي في الإشارة إلى الشخصيات التي جرى التخلص منها في عملية التطهير. ومثلاً، إنهم يسمون زهاو زيانغ “الرفيق القيادي في الحكومة المركزية في ذلك الوقت”، وكذلك يوسعون الآفاق ويختبرون حدود الخطاب المقبول، على رغم أنها واضحة وثابتة. كتب الروائي الصيني يان ليانكه، “لقد افترضت أن التاريخ والذاكرة سينتصران دائماً على الانحرافات الموقتة ويعودان إلى مكانهما الصحيح، ولكن يبدو الآن أن العكس هو الصحيح. ستنال النفوذ والشهرة والمال طالما أنك على استعداد لرؤية ما يسمح برؤيته، وإشاحة نظرك بعيداً عما لا يسمح بالنظر إليه، وطالما أنك مستعد للتغني بمحاسن ما يجب الإشادة به وتجاهل ما يجب إخفاؤه”.

على الأقل في الوقت الحالي، بحسب يان ليانكه، غالباً ما يكون الرهان الأكثر أماناً داخل الصين هو ببساطة التظاهر بأن هذا التاريخ لم يكن موجوداً على الإطلاق. يتسبب ذلك أحياناً في لحظات غير متوقعة من الصراحة. ومثلاً، قبل سنوات عدة، حينما سئل كاتب سيناريو مسلسل تلفزيوني دعائي عن دينغ خسياو بينغ أثناء مؤتمر صحافي عن سبب قرار إيقاف العرض فجأة في أوائل الثمانينيات من القرن الـ20، على رغم أن دينغ خسياو بينغ ظل قوياً لسنوات بعد ذلك. آنذاك، جاء جواب الكاتب صريحاً بشكل لا ينسى، “لأنه بعد عام 1984 سيكون من الصعب جداً الكتابة”، بحسب قوله. وتابع، “سيكون من الصعب للغاية التعامل مع الوضع”. وعلى رغم ذلك، حتى لو أمكن قمع هذا التاريخ، فليس من المستطاع محوه بالكامل. وقد يصبح في أحد الأيام ما أسماه الناقد الثقافي الأميركي فان ويك بروكس “الماضي الصالح للاستخدام”، بمعنى أن يجري إنقاذه بغية المساعدة في تشكيل مستقبل الصين، مهما كان غامضاً ومجهولاً.

* جوليان غويرتز هو مؤلف كتاب “لا تنظر إلى الخلف مطلقاً: الصين وتاريخ الثمانينيات المحظور” (مطبعة بيلكناب، 2022)، الذي اقتبست هذه المقالة منه.

المصدر: فورين أفريز

موضوعات تهمك:

للحرب الباردة وظائف أخرى

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة