الحرب الليبرالية الأهلية الأولى

محمود زين الدين20 أبريل 2022آخر تحديث :
الحرب الليبرالية

الدرس الأساس من الحرب الأوكرانية الراهنة هو ما تواجهه الفكرة الليبرالية من مخاطر داخلية وخارجية مهدِّدة.
اصطدمت الثورات الليبرالية الكبرى في الغرب تاريخيا بقوة بالنزعات المحافظة القومية التي حاربت أفكار التقدم والتسامح والمواطنة القانونية.
لم يؤد انحسار التناقضات التي حكمت العالَم خلال الحرب الباردة لتوطيد النموذج الليبرالي بل تكثفت أنماط جديدة من التناقض داخل المجتمعات الليبرالية نفسها.
صاغت الفكرة الليبرالية طبيعة مجتمعات الغرب الحديثة بمكوناتها الجوهرية من حريات فردية ونظام سوق ومسلك ديمقراطي في التنظيم السياسي وضبط العلاقات الدولية قانونيا.
في أوروبا إثر الحدث الأوكراني بتفاعلاته ليس عودةَ الحرب الباردة أو صراع الأقطاب بل انشقاق حاد داخل العالم الليبرالي الغربي والعامل الروسي من مكوناته المؤثرة والفاعلة.
* * *

بقلم: السيد ولد أباه
في مقال منشور بصحيفة «فايننشال تايمز» (4 مارس 2022) بعنوان «حرب بوتين على النظام الليبرالي»، يذهب المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما إلى أن الدرس الأساس من الحرب الأوكرانية الراهنة هو ما تواجهه الفكرة الليبرالية من مخاطر داخلية وخارجية مهدِّدة.
والفكرة الليبرالية هي التي صاغت طبيعة المجتمعات الغربية الحديثة في مكوناتها الجوهرية، من حريات فردية ونظام سوق ومسلك ديمقراطي في التنظيم السياسي وضبط قانوني للعلاقات الدولية وفق مبادئ السلم والتضامن وعدم العدوان.
ومع أن هذه الفكرة تحولت بعد نهاية الحرب الباردة إلى معيار قيمي ومجتمعي شبه شامل في عموم دول العالم، فإنها تعرضت حسب فوكوياما إلى ضربين من التحدي:
– يتعلق أولهما بمواجهتها من بعض القوى الدولية المؤثرة في مقدمتها الصين وروسيا في عهد بوتين،
– ويتعلق ثانيهما بالانحرافات الداخلية في المجتمعات الليبرالية ذاتها، والتي تصاعدت فيها موجة الشعبوية القومية المتعارضة مع مفاهيم الحرية والكونية والتضامن، والتي هي مرتكزات النظرية الليبرالية الكلاسيكية.
ومن الأسباب الأولى لنكوص الفكر الليبرالي، حسب فوكوياما، تراجع الإيمان بالعلم في مقوماته التفسيرية وتطبيقاته التقنية الإجرائية، بما عكسته منذ عقود الفلسفاتُ النقدية والتفكيكية التي اتجهت إلى نسف سردية الحقيقة التجريبية الموضوعية وتقويض مشروع سيادة الإنسان على الطبيعة عن طريق العلم والقدرة على تمديد العقلانية العلمية إلى مختلف أوجه الممارسة الإنسانية بما فيها الاقتصاد والسياسة والقانون.
فمنذ الستينيات، طغت النزعة البنيوية بامتداداتها في الفلسفة والعلوم الإنسانية، مشككةً في حرية الإنسان وفي صدقية ونجاعة العلوم التجريبية، وظهرت النزعات ما بعد الحداثية التي هاجمت فكرة «الكونية الإنسانية» التي هي الإطار النظام لليبرالية الحديثة.
وبعد عقود من هذا النقد الفلسفي والاجتماعي الجذري للحداثة والليبرالية، ها هي هذه الأفكار التي نشأت أصلا في سياق يساري تنسف النظام الليبرالي من داخله، فيكون وقعها أسوأ من حالة التهديد الخارجي الذي ترمز له اليوم الحربُ الروسية في أوكرانيا.
إن أهمية ملاحظات فوكوياما تكمن في أن مفكر «نهاية التاريخ» الذي تغنى في بداية التسعينيات بالعولمة الليبرالية السعيدة وسيادة الديمقراطية الليبرالية في العالم كله، أصبح يدرك اليوم، وبوضوح، أن انحسار التناقضات التي كانت تحكم العالَم خلال الحرب الباردة لم يؤد إلى توطيد وتعميم النموذج الليبرالي، بل إلى تكثيف أنماط جديدة من التناقض داخل المجتمعات الليبرالية نفسها.
بيد أن ما لم يقله فوكوياما هو أن هذه الارتدادات الحادة ليست غريبة على الفكرة الليبرالية في نشأتها، بل إنها عانت في منطلقها ومسارها من عدة إشكاليات هيكلية، من أبرزها: التعارض في مفهوم الحرية بين مبدأي الوعي الذاتي الحر والمواطَنة في مفهومها الكلي الجماعي، والتصور السلبي للحرية الذي هو خلفية المدونة القانونية الحديثة وما أطلق عليه تشارلز تايلور «حرية الأصالة» التي هي مرجعية فردية الاعتراف الذاتي الخصوصية.
وإذا كان العلم التجريبي قد شكّل بالنسبة لليبرالية الحديثة أساسَ رؤيتها للعالم في مقابل الأنساق الدلالية السائدة في العصور الوسيطة، فإن الجدل الإبستمولوجي حول معايير «العلومية» وما يرتبط بها من تصورات للحقيقة الموضوعية والتحقق التجريبي، ظل مفتوحاً على الدوام، وقد تجذر منذ بدايات القرن العشرين اثر الوعي المتزايد بالعلاقات الملتبسة بين العلم والسلطة والقوة في مجتمعات أصبح التطور التقني يهدد فيها جوهر المشروع التحرري الإنساني للحركية الليبرالية.
المفارقة البادية للعيان هنا هي أنه في الوقت الذي حسم اليسار الأوروبي خيارَ الاندماج في المنظور الليبرالي، متخلياً عن نزعته الاشتراكية الراديكالية في رفضها نظام السوق الحر ومعايير الفردية والطبقية، مما سمح له بتقاسم السلطة والتداول عليها مع الأحزاب اليمينية التقليدية، تراجعت القيم التحررية الحداثية والتنويرية داخل الكتلة الليبرالية الأصلية، بحيث أصبحت أقرب للتيارات المحافظة والقومية المتعصبة كما هو الحال اليوم في العديد من البلدان الأوروبية التي تحكمها أنظمة من هذا النوع.
وبالرجوع إلى التجربة التاريخية الأوروبية، نلمس أن الثورات الليبرالية الكبرى في الغرب (الثورة الدستورية الإنجليزية، والثورة الفرنسية والثورة الأميركية) قد اصطدمت بقوة بهذه النزعات المحافظة القومية التي حاربت أفكار التقدم والتسامح والمواطنة القانونية. وما يجري الآن إذن في أوروبا، في ما وراء الحدث الأوكراني بتفاعلاته المتسارعة والحادة، ليس عودةَ الحرب الباردة أو الصراع القطبي السابق، بل هو مظهر انشقاق حاد داخل العالم الليبرالي الغربي الذي لا شك أن العامل الروسي من مكوناته المؤثرة والفاعلة.
* د. السيد ولد أباه أكاديمي موريتاني
المصدر: الاتحاد – أبوظبي

موضوعات تهمك:

العقوبات الاقتصادية الأحادية ترهق الاقتصاد العالمي

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة