التحدي الصيني أمام الأميركيين

محرر الرأي9 يوليو 2019آخر تحديث :
التحدي الصيني أمام الأميركيين

التحدي الصيني أمام الأميركيين

  • يرى الأميركيون في التحدي الصيني خطراً موازياً لخطر التحدي السوفياتي بين عامي 1947 و1989 إن لم يكن يفوقه.
  • يشبه التحدي الصيني للأميركيين ما كان عليه نمو ألمانيا الاقتصادي بعد توحيدها في 1871 بالنسبة إلى السيطرة البريطانية العالمية.
  • قاد التعملق الاقتصادي الألماني إلى تعملق تكنولوجي وأسهما معاً في نشوء نزعة توسعية سياسية – عسكرية أنتجت حربين عالميتين.
  • ربط أوباما الاقتصاد بالعسكرة في “اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ” في 2015 لربط اقتصادات شاطئي الهادي بالاقتصاد الأميركي بعيداً من الصين.

* * *

بقلم | محمد سيد رصاص

في 15 ديسمبر 1978، أعيدت العلاقات الديبلوماسية بين الصين الشعبية وأميركا بعد أن ظلت واشنطن في حال اعتراف بالصين الوطنية (تايوان)، كممثل للجمهورية الصينية، بعدما هرب إليها أفراد حزب “كيومنتانغ” بعد هزيمتهم أمام الشيوعيين في البر الصيني في عام 1949.

في الشهر المذكور ذاته، أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني بدء خطة الإصلاح الاقتصادي (تطبيق اقتصاد السوق في القطاع الزراعي، مع إعلان أربعة مرافئ صينية كمناطق للتجارة الحرة مع الخارج) التي بدأ تطبيقها الشهر التالي.

لتشكل في الفترة الممتدة بين 1979 و2018، أكبر قفزة اقتصادية رأسمالية من حيث تأثيرها على بنية الاقتصاد العالمي منذ الثورة الصناعية البريطانية في القرن الثامن عشر.

في يناير 1979، زار مهندس الخطة الصينية دينغ هسياو بينغ واشنطن. واتضح من تلك الزيارة أن الصين مستعدة أن تقايض فتح الولايات المتحدة أبواب التكنولوجيا الحديثة أمام الصينيين، مقابل انحناءات صينية في السياسة الخارجية في ذروة الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.

لم يكن صدفة أن يكشف دينغ للرئيس الأميركي جيمي كارتر في تلك الزيارة، الخطة الصينية المتعلقة بالهجوم العسكري الصيني ضد الفيتناميين، حلفاء موسكو، في شهر فبراير، كرد على الغزو الفيتنامي لكمبوديا والذي أطاح بحكم جماعة “الخمير الحمر” الموالين لبكين، وتنصيب حكومة كمبودية موالية لفيتنام في 8 يناير 1979.

هكذا، لم تكن زيارة وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر السرية إلى بكين في يوليو 1971 وحدها التي دشنت المسار الجديد للعلاقات الأميركية – الصينية، خارج إطار الهاجس السوفياتي عند الأميركيين.

إذ أراد كيسنجر استخدام ورقة التقارب مع الصين، المتخاصمة مع السوفيات منذ العام 1960، كوسيلة للضغط على الكرملين من أجل تليين موقفه في المفاوضات حول معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية (سالت1) التي تم توقيعها في شهر أيار (مايو) 1972، ومن أجل ضغط سوفياتي على الفيتناميين في محادثات باريس من أجل ايجاد تسوية للحرب الفيتنامية.

في عام 1979 استخدم دينغ لعبة كيسنجر ذاتها، لكن من أجل الاقتصاد الصيني، وهو ما تم تسهيله من قبل كارتر الذي كان يرى المكاسب السوفياتية في أنغولا (1976) وإثيوبيا (1977) وأفغانستان (1978) وخسارة استراتيجية أميركية كبرى في إيران التي كان نظام الشاه فيها على وشك السقوط.

في أواخر الثمانينات، أكمل الشيوعيون الصينيون الخطة الاقتصادية عبر فتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية، مع فتح قطاعات الاقتصاد كافة أمامها. عملياً، فإن النمو الاقتصادي الصيني بين الأعوام 1979-2000، اعتمد أساساً على الاستثمارات الخارجية وعلى استيراد التكنولوجيا الغربية.

بدأت القفزة الصينية الاقتصادية تتضح أخيراً، اعتماداً على قوة الدفع الذاتية للاقتصاد الصيني، إذ تخطت الصين من خلال معيار الناتج المحلي الإجمالي، إيطاليا في عام 2000، وفرنسا (2005)، وبريطانيا (2006)، وألمانيا (2007)، لتتخطى اليابان في عام 2010، وتصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة.

وبعد وصول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى البيت الأبيض في عام 2009، اتضح انقلاب النظرة الأميركية إلى الصين قياساً إلى ما كان عليه الوضع في زمن نيكسون – كيسنجر وكارتر.

ففي عهد أوباما، وعبر إدراك أميركي جديد للتحدي الصيني القائم أمام القطبية الأميركية الأحادية للعالم، تم تبني “سياسة الانزياح الأميركي نحو التركيز على الشرق الأقصى”، وهو ما اتضح بجلاء في خطاب أوباما أمام البرلمان الأسترالي في تشرين الأول (نوفمبر) 2011.

والذي أعلن تعزيز التعاون العسكري مع اليابان وكوريا الجنوبية والتقارب الأميركي مع الهند، وإنشاء قواعد عسكرية أميركية في أستراليا والفيليبين وفيتنام، وهي خطوات تدخل كلها في إطار هذه السياسة.

قام أوباما بتثنية الاقتصاد مع العسكرة من خلال “اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ” التي وقعت في عام 2015 ، وهدفت إلى ربط اقتصادات شاطئي المحيط الهادي بالاقتصاد الأميركي بعيداً من الصين.

صحيح أن الرئيس دونالد ترامب، ألغى في اليوم الأول لتوليه الرئاسة في 20 يناير 2017 التوقيع الأميركي على تلك الاتفاقية، إلا أنه كان متفقاً مع أوباما على أولوية مجابهة التحدي الصيني، إنما بوسائل أخرى تدخل في إطار الأيديولوجيا اليمينية للرئيس الحالي.

ومن أهم ركائزها مبدأ “القومية الاقتصادية” التي تعني الحماية الجمركية ورفض الاقتصاد المعولم ورفض فتح الأسواق الأميركية أمام السلع الأجنبية المنافسة، والسعي إلى استعادة الشركات الأميركية لتعمل في الداخل بدلاً من الخارج.

ولتوضيح هذه الصورة، يمكن تقديم الأرقام التالية: بين الأعوام 1998 و2010، سجّل حجم الوظائف الأميركية انخفاضاً بنسبة 34 في المئة، بسبب المنافسة الصينية للسلع الأميركية، ونتيجة هجرة الشركات الأميركية إلى الخارج حيث الأجور منخفضة والضرائب الأقل وليونة القيود المتعلقة بالحفاظ على البيئة.

وفي عام 2018، وصل العجز التجاري الأميركي مع الصين إلى 419 مليار دولار، وضمن هذا المبلغ، توجد صادرات صينية في منتجات الحاسوب بمبلغ77 مليار دولار، و70 ملياراً في منتجات ومستلزمات الهاتف الخليوي، إضافة إلى 54 ملياراً في مجالي الألبسة والأحذية.

معظم هذه السلع التي تأتي من الصين كصادرات إلى الأسواق الأميركية، هي نتيجة تجميع صيني لمكونات سلعية منتجة في شركات أميركية موجودة في الولايات المتحدة وفي دول خارجية بما فيها الصين، علماً أن 41،7 بالمئة من الصادرات الصينية في عام 2018، سجّلتها مشاريع لشركات أجنبية موجودة في الصين، كما أن 43،7 بالمئة من الواردات الصينية، كان لصالح هذه الشركات.

أمام هذا الوضع، لجأ ترامب إلى سلاح الحرب الحمائية التجارية، إذ فرض تعرفة جمركية بنسبة 25 في المئة على واردات الفولاذ الصيني و10 في المئة على الألومنيوم، وشملت إجراءاته الحمائية في شهر تموز (يوليو) 2018، ما قيمته 34 مليار دولار من الواردات الصينية.

وفي عام 2019 قفزت حرب ترامب التجارية مع الصين لتصل إلى شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي”،التي تعني للأميركيين خطر وصول الصين إلى المنافسة في حقل التكنولوجيا المتقدمة والتجديدات الحديثة.

بعد أن كانت المنافسة الصينية تقتصر على سلع تقليدية رخيصة التكاليف أو في مجال التطبيقات التكنولوجية التي هي أساساً تجميع لمكونات منتجة ومطورة في الغرب الأميركي – الأوروبي.

يلعب ترامب هنا على نقاط ضعف الاقتصاد الصيني، الذي يعتمد نصفه تقريباً على استثمارات أجنبية ولم يصل بعد إلى مملكة “هاي تكنيك”. وهو يعرف أن الصينيين يدركون ذلك. لذا، أطلقوا في عام 2015 ما سموه خطة “صنع في الصين 2025” لجعل 70 في المئة من مواد السلع المصنعة لديهم بحلول هذا التاريخ محلية.

يريد ترامب هجرة معاكسة للشركات الأميركية من الصين إلى الولايات المتحدة، وهو يحاول في إطار مجابهته الاقتصادية مع الصين، إجبار الأخيرة على رفع قيمة عملتها (“يوان”)، لجعل السلعة الصينية أقل تنافسية.

كما أنه يستغل كون الصين هي المشتري الأول لسندات الخزينة الأميركية (1,1 تريليون دولار أرقام إبريل 2019)، كما أنها المالك الأول عالمياً للدولار الورقي في محفظتها من النقد الأجنبي.

لذلك، يعرف الجانبان (ترامب والصين) أن ركوداً اقتصادياً أميركياً لن يكون في صالح بكين، وأن هذه النقطة وتلك من نقاط ضعف الصين وليس العكس، وهو ما يجعل الصين ضحية تداعيات أي ركود اقتصادي أميركي.

وهذا ما يمكن تلمسه من انخفاض معدل نمو الناتج المحلي الصيني إثر أزمة العام 2008 المالية – الاقتصادية التي بدأت أميركياً ثم انتشرت عالمياً، وهو ما قامت الصين بتعويضه عبر تحويل محفظتها الضخمة من النقد الأجنبي إلى استثمارات صينية في الخارج.

وتحاول الصين تفادي نقطة ضعف كبرى أخرى، وهي أن مضيق ملقا (ملغا)، الذي يصل بين المحيطين الهادئ والهندي، مسيطر عليه من قبل الأميركيين عبر قاعدة عسكرية في سنغافورة.

لذلك اتجهوا نحو استئجار مرفأين في باكستان وميانمار مع ربطهما بالبر الصيني بأتوسترادات وسكك حديد لتقليل المرور من ذلك المضيق أو تفاديه حالياً، أو لتعويضه واستبداله في حال مجابهة أميركية – صينية، كالتي تحصل الآن بين واشنطن وطهران.

إذ أن وقوع إيران في قلب طريق الحرير الصيني الجديد المسمى “حزام واحد، طريق واحد”، التي أطلقتها الصين في عام 2013 للربط مع غرب آسيا وأوروبا وإفريقيا، يجعل احتواء إيران أميركياً، وبالذات مع سيطرة أميركية على أفغانستان والعراق، ضرورة لواشنطن من أجل تفشيل الامتداد الصيني غرباً.

وعلى الأرجح كان هذا هو الهدف البعيد لأوباما من اتفاق 2015 مع إيران حول البرنامج النووي، فيما يهدف ترامب إلى احتواء إيران بشروط أميركية أفضل ومكاسب إيرانية أقل.

يشبه التحدي الصيني للأميركيين ما كان عليه نمو ألمانيا الاقتصادي بعد وحدة العام 1871 بالنسبة إلى السيطرة البريطانية العالمية. قاد التعملق الاقتصادي الألماني إلى تعملق تكنولوجي، وأسهما معاً في نشوء نزعة توسعية سياسية – عسكرية أنتجت حربين عالميتين.

يرى الأميركيون في التحدي الصيني خطراً موازياً لخطر التحدي السوفياتي بين الأعوام 1947 و1989 إن لم يكن يفوقه. من هنا، تصب كل الخطط الأميركية الحالية تجاه الصين في إطار منع تكرار التجربة الألمانية مع لندن في الفترة بين1871 و1945.

* محمد سيد رصاص كاتب سوري
المصدر | الحياة

موضوعات تهمك:

العرب الغائبون عن الصراع التكنولوجي الصيني الأميركي

النموذج الصيني أمل اليسار في هذا العالم

الصعود الصيني والانفعال الأميركي.. العالم عند سفح أم هاوية؟! 

أميركا وخطر خسارة الحرب التجارية مع الصين

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة