البرجولا قصة قصيرة بقلم: ندى امام

الشاعر ع11 يناير 2019آخر تحديث :
البرجولا . قصة قصيرة . بقلم : ندى امام

البرجولا . قصة قصيرة . بقلم : ندى امام

جميل هذا الصباح، شمسه هادئة وهواؤه منعش، هكذا أستيقظ دائما على كلمات أمى المعتادة ، ثم تضيف، لقد تأخر الوقت، ولقد أعددت لك الإفطار.
تقع عيني على الصورة المعلقة على الجدار لراقصة الباليه التى تطير في ثوبها الأبيض كما الفراشة، تلك الصورة أهدتها لى أمي يوما فى عيد ميلادى قائلة: وجدتها تشبهك كثيرًا.. فأتساءل، هل حقا تشبهني؟

استغرب يقظتى التى تبدو كمن سقط من فوق ربوة عالية محملاً بالملل! آهٍ من الملل ! أما له من تعبير آخر غير هذه الكلمة الثقيلة على الروح والقلب؟ من مخترعها؟ أكان سقرط أم أفلاطون أم أرسطو؟ أجيبوني يا فلاسفة اليوتوبيا؟! متكاسلة أسأل أمى وهى تزيح الستائر لمنح غرفتى كامل الضوء: ما الفرق يا أمى بين الملل والكسل؟
ترد أمي بصوتها العذب على الرغم من كبر سنها قائلة: الكسل كلمة توحى بالرغبة فى الراحة وترك أى عمل مع توفير ألف سبب يجعلك لا تتقيدى بفعله.
ولكن هناك كلمات أخرى جميلة فلماذا لا تسألين عنها؟ مثل كلمة السعادة، تلك المعجزة التى ننشدها جميعا من بين مفردات الكون. وهناك كلمة رائعة مثل الحب، وهذه وحدها كافية بأن تحرك الكون ومفرداته ويزدهر بمقتضاها العمر.
تهدأ روحي ويسكننى رضا كبير فأرد بابتسامة قائلة : آه يا أمي، كم أنا محظوظة بك.

قرار خروجى من المنزل كان صعبًا، ولكنى رضخت تحت إلحاح أمي المستمر بالعمل على تنشيط روحى وعقلى بالتنزه، فأنا ما زلت في نظرها طفلتها المدللة، توصيني أيضًا بأن أرتدي ملابس ذات ألوان مبهجة، تشدد على وضعي مساحيق التجميل والتأنق للخروج للحياة، فهذه كانت أيضا صفاتها التى تعكسها كلماتها.
حين تخرج من الغرفة أرانى بكلماتها كامرأة من زمن الفراعنة، ستجلس أمام المرآة حيث تمشط الماشطة شعرها الأسود الناعم، وترسم عينيها بالكحل وكفيها بالحناء! أمي تحن دائما إلى الماضى، بينما أنا غير قادرة على استيعاب الحاضر فأنا وحيدة من الأصدقاء، بحثت كثيرا عن سبب لهذه الوحدة فلم أجد ما يقنعنى! لكن ربما لدى الآخرين أسبابهم المقنعة تجاهى!

كان اقتراح أمي أن أذهب إلى النادى، دعوتها للذهاب معي كي نأتنس معًا لكنها تعللت بالكسل وودعتنى عند الباب وهي تضحك قائلة : هيا أذهبي وأتنسي بالفراشات، فضحكت معها، ولطالما كانت الابتسامة لا تأتينى إلا من خلالها. ساءلت نفسي وأنا فى الطريق، لماذا النادي؟! ربما لأنه ملاذنا الوحيد منذ أن ولدتُ وذهبتْ بى أمى هناك وأنا مازلت فى شهرى الأول.
وقد يكون لأنه هو من بقي لنا ولم يرحل مع كل من رحلوا خلال حياتي وحتى هذه اللحظة التى وصلت فيها للخمسين من العمر!
عجوز أنا! هكذا تقولون الآن فى سركم بعدما بحت لكم بعمرى الحقيقى، كان من الممكن أن أقول فى العشرينيات أو الثلاثينيات من العمر، ولكن هل كان سيتناسب هذا العمر الجميل مع الملل؟!
العقد الخامس ، وآهٍ منه! تلك المرحلة المبهمة والبين بين، المرحلة التى أعيشها مع وحدة كُتِبتْ علىّ أو كَتبتُها على نفسى ، إلا من أم تبلغ الخامسة والسبعين من العمر، هي كل مالدى من أهل وأصدقاء، ولطالما كانت هى الداعمة لبقائى على قيد الحياة حتى الآن، لكنها الآن بدأت تعانى من بدايات الزهايمر، وحالة متوسطة من عدم السمع ، مما يجعلنى أكرر الكلمات معها أكثر من مرة ، ويعلو صوتى حتى يصل للجيران ، فيعرفون أين النقود، وحال الغسيل، وهل اشتريت السكر أم لا؟ ومن الذى تكلم بالتليفون وو.. المهم، وحتى لا أطيل عليكم فتشعروا بالملل، وها نحن نعود إليه مرة أخرى!
أوقات أقول لنفسى إننى بحاجة إلى قصة حب جديدة! نعم، أحيانا ما يكون هذا هو الحل. والحب عندى عذرى لا ينتهى بالزواج، حب تتلاقى فيه القلوب دون الأجساد ويكتفي فيه الحبيبان بالابتسامات واللقاءات الرومانسية، فأنا أهاب الزواج، وقد أصررت على عدم الدخول فى تلك التجربة منذ وقت طويل، ، ولى أسبابى القوية التى لا تعنيكم، فلا تنعتونى بأشياء قد تنالوا منها إثما.

فى النهاية ، أنا الآن بالنادى، فى هذا الوقت الذى تتزامن فيه بدايات الصيف بأوقات الامتحانات والكل مشغول، الجو ضبابي بعض الشىء مما يجعل الرؤية غير جلية الوضوح، والنادى شبه خاوٍ إلا من رواد قليلين مثلى ربما جذبهم للمجىء نفس أسبابى.
لن أجلس على طاولة فأنا أريد التغيير، آه.. ها هى البرجولة المزهرة بمقاعدها الخشبيىة العتيقة، مشهد جميل يذكرنى بالأيام الماضية وذكريات الطفولة والشباب.
البرجولة الطيبة تستقبلني فى صمت مهيب، تحتوينى بعطف يعيد لى الشعور بزمن الأحبة والأصدقاء، فكم جلسنا أنا وأمى وأبي هنا نتكلم ونضحك.
الآن رحل أبي، وكبرت أمى، وشاخت البرجولة أيضا، لكنها مازالت قائمة ومتماسكة، أزهارها الملونة تنشر روائحها الشذية المبللة بقطرات ماء تساقطت عليها بفعل ألة الرش الدائرية التى تروى ظمأ الأشجار من حولى فترد لى بعضًا من روحي.

جلست وحيدة إلا من فراشة بيضاء جاءت لتحوم حول البرجولة وزهورها فوجدتنى فرصة لتسلية وقتها. ضحكت وتذكرت كلمة أمى التى أوصتنى فيها بأن أئتنس مع الفراشات.
مشيئة الله التى لا مرد لها تظل غالبة وسارية المفعول من دون حول ولا قوة أحد، هكذا حدثتني البرجولة حديثًا صامتًا! ثم بدأت تذكرنى بأنى كنت وصديقة لى ضمن مجموعة من شباب وشابات النادى نضحك ونلهو معًا بمرح ونقاء فى حياة جوهرها الحب، وأحبت صديقتي شابا طيبًا وانتهيا بزواج سعيد.
أما أنا فحين أحببت للمرة الأولى وتم عقد قراني على حبيبى وزميلي بالدراسة، كنت حينها فى مرحلة الماجستير، فاشترط أن لا أكمل دراستى العليا لأتفرغ له ولبيتنا وحبنا ووافقت، فماذا تريد المرأة أكثر من الحب؟! ثم حظي حبيبي ببعثة للخارج، كانت مفاجأة سارة لنا لذا شجعته على السفر وبيننا اتفاق أن نتمم الزواج هناك حين تستقر أموره. لكنه لم يعد رغم آلاف الصفحات التى كتبتها له كي يعود! تركني بلا سبب وتزوج بأخرى أجنبية كانت تعمل معه بالجامعة!

بعدما خيل لى أننى تجاوزت الصدمة، تمت خطبتى مرتين ، لم تكتمل أي منهما حتى الزفاف لظروف خارجة عن إرادتي! مع أننى فى كل تجربة كنت أتنازل عن بعض من طموحاتي، لكن كانت هناك قوى إنسانية أخرى تتحداني، حتى استنفدت طاقاتي على الصبر، فصرت خائفة دائما من الثقة بشىء وانتظاره ليكتمل، والخوف صفة من الصفات التى لايمكن فصلها مطلقا عن النفس حتى قبل سقراط.
وهكذا أصبحت لا أطيق الاستمرار فى شىء للنهاية، فكنت ألتحق بالعمل ثم أتركه بعد وقت قصير وألتحق بآخر خوفاً من أن يتم الاستغناء عنى دونما سبب.

وأصابنى وسواس الشك فى نفسي وفى الناس، فالمجتمع وليد الروح، والروح أصابها اليأس فأصبحت الأشياء بلا لون ولا طعم ولا رائحة. ودخلت دوامة العلاج النفسى، ونصح الأطباء والدىَ بأن لا أتزوج إلا بعد شفائى، فلا قدرة للإنسان على إدارة شئون الحياة إلا إذا اقتدر على إدارة ذاته. فكرة الزواج بالنسبة لهم حينها كانت كمحاولات تلاميذ سقراط لتهريبه من السجن، لكنه فضل الموت بالسم على الهرب، فضل أن يحترم القوانين وينفذ أحكامها، وقد فعلت مثله وخضعت لحكم السماء.

اقرأ/ى أيضا : زوجه تخلع زوجها بعد اصابتها بالسكرى

مات أبي، وتنقلت بي أمي مرة أخرى بلا كلل أو ملل في محاولات للشفاء ما بين عيادات الأطباء النفسية، وجلسات فك السحر والأعمال و معرفة سر الحرف، وقراءة الطلاسم، وبركات الأضرحة والأولياء. وطال الوقت حتى أصبح هو عدوى الأول الذى أخافه واتحداه! فأعاقبه بالتجاهل، ويعاقبنى بالوحدة والملل. وها أنا أعود بكم لذات النقطة ألا وهى الملل والذى بسببه أنا هنا الآن.

رفرفة الفراشة البيضاء حولي تقطع أفكاري، لكن البرجولا تعيدها مرة أخرى كشريط يبث الذكريات، فتقفز إلى ذاكرتى صوت ضحكات الفتيات اللاتى كن يظهرن عدم الأكتراث أثناء مرورهن بالشباب، فيقوم الشباب بمعاكستهن. كم كنت أحزن حين يمر بجوارى شاب متعجل فيتخطانى دون النظر إليَ! كنت أريد أن أثور عليه وألفت نظره أن الفتيات يعشقن الاهتمام والمعاكسات حتى وإن أظهرن عكس ذلك!

طالت جلستي مع الذكريات وقام الناموس بالتهام أقدامى، بينما الفراشة مستمرة فى جولاتها الراقصة حول البرجولا وهى تقبل شفاه الورود كمن تمنحها قبلة الحياة، ثم اقتربت كثيرا من وجهي وكأنها تتأكد منه، فهمست لها قائلة: كم أنت جميلة أيتها الرقيقة الحالمة! ترى كم من الوقت تستطيعين الاستمرار بالتحليق؟ أعتقد أنك مازلت صغيرة السن ولن يصيبك الإرهاق سريعًا. يوما كنت مثلك حالمة ومنطلقة، أحلّق بخيالى بعيدًا حتى أقصى الخيالات جمالًا لأبحث فيها عن المستقبل والحب، الآن أمضي كفراشة تعبة فى رأسها سيل من الطنطنة الجوفاء، وتبحث عن شعلة نار فوق صدر وردة كي تحترق وتستريح.
سأصارحك بسر أيتها الفراشة .. فقد كنت أعتقد حتى وقت قريب أننى مازلت شابة جميلة، لكنى تنبهت ذات يوم حين افترقت وآخر حبيب، أننى صرت بلا شباب يغرى المحبين. الفراشة التي طارت ضاحكة أعطتنى الأمل والقوة لأرسم ضحكة مكتومة وأقول: ترى من يجىء بعده ؟! لكنها عادت مقتربة من أذنى وهمست قائلة: لم تنتظري من يجىء أو من يذهب؟ انطلقي يا سيدة الحرية فالحياة أقصر من أن تضيعيها فى فى الملل، اندهشت! وكمن أفاقت من غيبوبة طويلة استحضرت روحي، وساءلت نفسي بينما الفراشة تطير بعيدا، لم الانتظار؟ ذاك السؤال محير بالفعل؟ ولم الحزن والملل؟ لماذا أعيش فى تلك المأساة التى فاقت فى حبكتها كل شعراء التراجيديا منذ عهد شكسبير؟ لماذا أجوس فى عالم الموتى على الرغم من أننى مازلت فى مملكة الحياة؟ لم أجد تفسيرا مقنعا لهذا الانعطاف، لم لا أدع نور المملكة يضىء وجهي الشاحب؟ لم لا أكون مثل حبة القمح حيثما ترمى تنبت وتعطي؟ لم لا أحب نفسى التى اغتالتها يداي؟ والوقت الذي هو عدوي، لم لا أصادقه؟ يا أيها الوقت، لتعلم أن مافات كان هو حربنا الأخيرة.
لن أجلس وحدى بينما الكل قد ركب عربة السعادة ومضى، فلتعد عربة السعادة كي أركب فى المقدمة، يا أيها الملل اللعين، لن أهدر ما تبقى من عمري معك، فلتطرح شباكك بعيدًا عني، دع الحرية والحياة يتكثفان بداخلى حتى ينفجر المطر فيروى أرضي الذابلة ويملأ ينابيع الروح.

اقرأ/ى أيضا: الإعدام لمغربي قتل مواطنه بمطرقة في الجزائر

الغيم ينقشع، فتضىء البرجولا وتتكشف الرؤية أكثر وأكثر، وينبعث نور بداخلى وفيضان من حنين وشجن كمن سقطا من ألف نبع جعلانى أتذكر أبيات شعر كانت أمي تحبها، وتهمس بها فى جلساتنا معًا تحت تلك البرجولا، كانت تقول: أمس التقينا فى طريق الليل/ من حان لحان/ شفتاكِ حاملتانِ/ كل أنين غاب السنديان/ ورويت لي للمرة الخمسين/ حب فلانة وهوى فلان../ إنه محمود درويش الذى طالما أحببت أشعاره من خلال أمي، إنها العاطفة الصادقة ، ينبوع الحب وقوام الألفة وأساس محبة الحياة، أو هى الحياة نفسها.

تشتد حولى الرائحة الشذية، والألوان الزاهية من الأزهار المتدلية من السياج حول الحديقة تعيد تجديد أوراقى، تشدنى بتيار الأمل، فألملم الذكريات وأودع البرجولا وأسرع الخطو، أسرع .. وأسرع..
تسابقنى الفراشة فأصيح بفرح : أيتها الفراشة النبية، يا واهبة الأمل يا من أيقظت الروح فى حياتى الذاوية، أدرك أن أمي هى من أرسلتك، فهيا نطير حيث المروج البعيدة لنمرح فيها، فكم أشتاق للورود والطيور! هلمي بنا كى ننعم بنور القمر و بدفء الشمس، أسرعي كي نبعث حياة جديدة فى كل الذين سيمرون أمامنا بقلوب مكسورة وحيوات ذاوية وعيون مملوءة بدموع الحزانى المعذبين، أسرعي، أسرعي.. آهٍ، كم هو قصير الوقت؟!
***
ندى إمام

اقرأ/ى أيضا:مصر ترسل وفد امني اليوم لقطاع غزة

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة