الاستثناء الأمريكى المزدوج

محرر الرأي7 يناير 2019آخر تحديث :
الكونغرس
  • الاستثناء الأمريكى المزدوج
  • ارتبط الاستثناء الأمريكي بنظام سياسى مختلف عن ديمقراطيات العالم، وإمكانية تحقيق الأحلام.
  • رغم قصر التاريخ الأمريكي بمعايير الأمم، 242 عاما، لكنها عرفت ثباتا مؤسسيا يُشهد له، رغم قصوره.

 

بقلم: محمد المنشاوي

تاريخيا ارتبطت عبارة «فقط فى أمريكا»، Only in America بظاهرتين، أولهما طبيعة النظام السياسى المختلفة عن كل الديمقراطيات فى العالم، وثانيها يتعلق بإمكانية تحقيق الأحلام.

فى أمريكا فقط، يستطيع أن يصل مرشح رئاسى إلى الحكم حتى حال عدم حصوله على أغلبية أصوات الناخبين، وقد حدث ذلك مع مرشحين جمهوريين وصلوا إلى البيت الأبيض، فجورج بوش الابن حصل على أصوات تقل عما حصل عليه الديمقراطى آل غور بنصف مليون صوت فى انتخابات 2000.

وتكرر السيناريو مع الرئيس الحالى دونالد ترامب الذى حصلت منافسته الخاسرة، هيلارى كلينتون، على 2.5 مليون صوت أكثر منه. ويسمح نظام المجمع الانتخابى المتبع فى الولايات المتحدة بذلك، ولا يحدث مثله فى أى نظام سياسى آخر.

المحتويات

*    *    *

ارتبط ثانى هذه المظاهر بالقدرة على تحقيق الحلم لكل من تطأ أقدامه الأراضي الأمريكية.

وبرزت هذه الظاهرة فى العقود الأخيرة، مع احتضان الولايات المتحدة ملايين من طلاب الدراسات العليا الأجانب (فى التكنولوجيا والهندسة والكيمياء والفيزياء والأحياء والإحصاء والرياضيات) وعدم رغبتهم فى العودة إلى أوطانهم بعد انتهاء الدراسة، لاستكمال مسيرة تحقيق الحلم فى أمريكا.

وسيمثل انتهاء هذا السيناريو، حال حدوثه، انتهاء فكرة «الحلم الأمريكى» لملايين من أنبغ البشر، وأكثرهم قدرة على الخلق والإبداع.

وما زالت عبارة «فقط فى أمريكا» ترن فى أذن صاحبها، مذكرة إياه أو إياها بأنه يمكن تحقيق الحلم هنا فى أمريكا فقط. ويعتقد كثيرون أن سياسات ترامب المتشددة تجاه الهجرة تهدد جذب العقول لأمريكا والبقاء فيها.

*    *    *

وتسبق الولايات المتحدة بصورة كبيرة بقية الدول فى أعداد الفائزين بجوائز نوبل المتنوعة فى العلوم خاصة الكيمياء والطب والفيزياء. وتبلغ نسبة الأمريكيين ممن ولدوا خارج أمريكا «مهاجرين» أكثر من 40 بالمئة.

وجدير بالذكر أن والد مؤسس شركة آبل ستيف جوبز كان مهاجرا سوريًا، كما أن المؤسس الشريك لشركة غوغل سيرغيه برين كان مهاجرا من روسيا.

وحقق لأمريكا جوائز نوبل علماء ولدوا فى عدد من الدول المتقدمة مثل اليابان وكندا وألمانيا والنمسا ودول أقل تقدما مثل تركيا وجنوب إفريقيا وإسرائيل، ودول تعد غير متقدمة بمعايير البحوث العلمية مثل مصر فى حالة الدكتور أحمد زويل.

وإذا فكر هؤلاء العلماء فى العودة لأوطانهم الأصلية، هنا فقط قد تهتز ريادة أمريكا وهو ما يقلق مفكريها الجادين بسبب تضييق ترامب على المهاجرين.

*    *    *

عبارة «الاستثناء الأمريكى»، ابتكرها المفكر الفرنسى، ألكيس دى توكفيل، الذى رأى أن الولايات المتحدة مختلفة عن بقية الدول، ولديها مهمة عالمية محددة لنشر الحرية والديمقراطية.

واستخدم الكاتب هذا التعبير أول مرة فى كتابه «الديمقراطية فى أمريكا» الصادر عام 1839، وتحول هذا التعبير، مع الوقت، ليصبح جزءا من الأساطير الجمعية التى تشكل جزءا مهما من الوعى واللاوعى عند الأمريكيين.

وتعتقد المدرسة الفكرية الأمريكية أن أمريكا، الفكرة والحدوتة، عظيمة بطبيعتها. ويدعم هذه المقولة إيمان أغلب الساسة هنا بأن:

«العالم ينتظر من الولايات المتحدة أن تقود العالم، وأن تحل مشكلاته. ولذا، عليها أن تمهد طريقها لقيادة العالم فى العقود المقبلة، وأن حل مشكلات العالم يتطلب مؤهلات وإمكانات، ودورا تستطيع أمريكا فقط أن تقوم به».

طبقا للرئيس السابق باراك أوباما الذى أضاف: «كل دول العالم تشعر بالغيرة، وتتمنى أن تكون فى مكانة أمريكا وقوتها».

ولا يجادل أحد فى قيادة الولايات المتحدة العالم تكنولوجيا واقتصاديا لأسباب مختلفة. ونعم تختلف وتتغير طبيعة هذه القيادة، فأحيانا تشاركها قوى أخرى، مثل أوروبا أو الصين أو روسيا، وأحيانا أخرى يقل تأثيرها وتختفى قوتها، مثلما الحال فى أفغانستان.

وفي أحيان ثالثة، تكون قوتها عرضة لقيود كبيرة تقلص من تأثيراتها، كما الحال فى أزمة كوريا الشمالية. ورغم الصعود الصينى السريع، إلا أن المدرسة الفكرية الأمريكية تؤمن بأن زمن الأفول الأمريكي لا يزال بعيدا.

وتستشهد فى ذلك بأن العالم، وأغلب سكان الأرض، يحيون بالصورة والطريقة التى يختارها العقل والذوق الأمريكيان من خلال تطبيقات واختراعات تكنولوجية متنوعة، من «آيفون» و«تويتر» وفيسبوك» إلى «غوغل» و«أمازون»، ومن «مايكروسوفت» و«إنستغرام» وصولا إلى «يوتيوب».

ورغم تمتع الولايات المتحدة بتاريخ قصير جدا، طبقا لمعايير عمر الأمم والدول، إذ لا يتعدى 242 عاما، إلا أنها عرفت ثباتا مؤسسيا يُشهد له، رغم نقاط قصور هنا وهناك.

ويمثل ترامب خروجا عن النسق العام السياسى الأمريكى… نعم، تزلزل تغريدات الرئيس ترامب ثوابت السياسة الأمريكية فى قضايا هامة لها ولبقية العالم، إلا أن هذه الزلازل لم تتوقف توابعها بعد.

فى أمريكا فقط، يمكن لرئيس أن يقف الخصم الرئيسى لمصالح بلاده الاستراتيجية كما تؤمن بها مؤسساتها العسكرية والتشريعية.

فى أمريكا فقط، يمكن لرئيس أن يشكك فى مصداقية أجهزة الاستخبارات.

وفي أمريكا فقط، يمكن أن يصف مشرع برلمانى الرئيس بأنه أهبل، وفقط فيها يمكن لمدير سابق لأهم وكالة استخبارية (سى آى أيه)، جون برنان، أن يصف ما يقوم به ترامب بأنه «ليس أقل من خيانة».

فى الوقت نفسه، يظهر الاستثناء الأمريكى أن تيارات واسعة مؤيدة لترامب لم يهتز إيمانها به، وبما يفعله، إذ تعتقد أن كل ما يثار بشأن تهوره وخيانته يرتبط بصراع ترامب مع الدولة العميقة.

*    *    *

في أمريكا فقط تغلق الحكومة الفيدرالية أبوابها. ويُقصد بالغلق فى هذه الحالة توقف مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين عن العمل لحين التوصل لحل لأزمة قانون الإنفاق أو أن يعملوا دون الحصول على مرتبات انتظارا لحل المشكلة.

في أمريكا يمكن أن يغرد الرئيس قائلا «أجلس وحيدا تماما فى البيت الأبيض (يا لى من مسكين) فى انتظار عودة الديمقراطيين وإبرام اتفاق بشأن أمن الحدود الذى نحن فى أمس الحاجة إليه»، ويمكن للديمقراطيين تجاهل ما يقوله الرئيس.

* محمد المنشاوي كاتب صحفي في الشؤون الأمريكية من واشنطن.

 

المصدر: الشروق – القاهرة

 

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة