أين ترى إسرائيل نفسها في ظل الصراع على النظام العالمي؟

محمود زين الدين10 مارس 2022آخر تحديث :
إسرائيل

تسعى روسيا لتغيير قواعد اللعب في أوروبا والنظام العالمي الذي نجم عن نهاية الحرب الباردة.

تأثير العقوبات بعيد المدى ونجاعتها مُناط بقدرة الغرب على استمرارها على مدى الزمن وتعظيم العزلة الاقتصادية الروسية.

سيناريو خطير لخطوة أمريكية تستهدف “تنظيف الطاولة” بالتوقيع على اتفاق نووي بسرعة للتركيز على روسيا يتحدى المصلحة الأمنية الاستراتيجية لإسرائيل.

إن نصراً عسكرياً روسياً بميدان المعركة لن يؤدي لانتصار استراتيجي بعيد المدى في ضوء المقاومة الشعبية للاحتلال الروسي، وغياب الشرعية الدولية.

روسيا لن تتردد في استخدام القوة لحماية “حدودها الاستراتيجية” مع الاستعداد لحرب هدفها بعيد المدى: إنهاء الهيمنة الأمريكية العالمية وتثبيت نظام عالمي متعدد يعبر عن مركزية روسيا.

* * *
تسعى روسيا لتغيير قواعد اللعب في أوروبا والنظام العالمي الذي صُمم بعد نهاية الحرب الباردة. فالهجوم الشامل على أوكرانيا لم يستهدف فقط تغيير الحكم إلى “حكم دمى” روسي!
بل جاء لينقل رسالة إلى الغرب وأساساً إلى الولايات المتحدة، بأن روسيا لن تتردد في استخدام القوة لحماية “حدودها الاستراتيجية” مع الاستعداد للخروج إلى حرب هدفها بعيد المدى، هو إنهاء الهيمنة الأمريكية العالمية وتثبيت نظام عالمي متعدد يعبر بإخلاص عن أهمية روسيا ومركزيتها.
أما الغرب بقيادة الولايات المتحدة، فيتخذ سياسة ضغط شاملة هدفها صد العدوان الروسي، وجباية ثمن اقتصادي باهظ منها، وجعلها دولة “منبوذة” في الساحة الدولية.
الولايات المتحدة التي تقود الائتلاف الغربي تعمل تحت حافة الحرب المباشرة مع روسيا، ولكنها تستخدم أدوات سياسية واقتصادية غير مسبوقة.
الميزان المرحلي الاستراتيجي
دخل الرئيس بايدن إلى الأزمة وهو يواجه مصاعب عديدة من الداخل والخارج: شعبية متدنية، وانتقاد متزايد في ضوء الوضع الاقتصادي، وانسحاب فوضوي من أفغانستان، واتفاق نووي متحقق مع إيران، وفوق كل ذلك المس بصورة العظمة وقوة الردع الأمريكية في العالم.
الفهم السائد في واشنطن هو أن أزمة أوكرانيا ستؤثر بشكل مباشر على استمرار ولاية الرئيس بايدن، وبقائه السياسي، وإرثه كرئيس، وعلى مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية مهيمنة والسياسة الناشئة عن ذلك.
لقد أوضحت واشنطن حتى قبل بدء المعارك، بأنها لن تساعد أوكرانيا عسكرياً، والتي ليس لها معها حلف دفاع عسكري، وأنها لن تنجر إلى معركة مع روسيا قد تتدهور إلى حرب عالمية ثانية.
كذلك، نجحت الولايات المتحدة في توحيد الناتو، وبلورة ائتلاف ناجع يضم الاتحاد الأوروبي، وأستراليا، ونيوزيلندا، وتايوان واليابان، وقيادة خطوات غير مسبوقة هدفها المس الشديد اقتصادياً بروسيا، وعزلها في الساحة العالمية في ظل تصنيفها كقوة رجعية تقوض الاستقرار العالمي.
يتركز الرد الغربي في هذه المرحلة على العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة، وتعزيز القوات العسكرية في أوروبا، وإغلاق المجال الجوي، (ولاحقاً البحري) الأوروبي أمام الطائرات الروسية، والمساعدة العسكرية لأوكرانيا، إلى جانب معركة دبلوماسية أساسها التشهير ونزع الشرعية عن روسيا في الساحة الدولية، وقيادة خطوات شجب في مجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة. الخطوات الغربية منسقة لتعظيم نجاعتها ومتدرجة بشكل يجسد لموسكو الثمن المستقبلي الذي ستدفعه.
الصين تنسق مع روسيا وتسعى لحل النظام العالمي الأمريكي والدفع باستراتيجية “الطريق والحزام” إلى الأمام كوسيلة لتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي. ومع ذلك، لا يعني الأمر أن الصين ستستغل الأزمة، وتتحدى الولايات المتحدة والغرب بشكل مباشر من خلال تصعيد في ساحة إضافية.
الاستراتيجية الصينية بعيدة المدى، وتسعى لتثبيت نفوذها العالمي تدريجياً. وهكذا، امتنعت الصين في تصويتها بمجلس الأمن عن شجب الغزو الروسي بشكل اعتبر كنجاح للغرب في عزل موسكو، ومع ذلك، في حالة إبداء الولايات المتحدة ضعفاً والسماح لموسكو بتحقيق أهدافها الاستراتيجية، لن تتردد بكين أغلب الظن في استغلال ذلك والعمل على خطوات قوة من جانبها في بحر الصين الجنوبي.
صحيح أن روسيا لم تفقد حتى الآن استقرارها المالي في ضوء أرصدة العملة الصعبة والذهب التي جمعتها (نحو 630 مليار دولار)، وتقدير الدولة المسبق لسيناريو العقوبات، بما في ذلك تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع الصين، لكن تأثير العقوبات بعيد المدى ونجاعتها منوط بقدرة الغرب على استمرارها على مدى الزمن وتعظيم العزلة الاقتصادية الروسية.
سلاح “يوم الدين” المتعلق بقطع الاقتصاد الروسي عن منظومة التحويلات الدولية “سويفت” استخدم جزئياً من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، الذين أعلنوا عن قطع بنوك معينة عن المنظومة، إلى جانب تشديد القيود على البنك المركزي الروسي. وستصعد هذه الخطوة على موسكو استخدام أرصدة العملة الصعبة وإدارة الصفقات الدولية، وستمس بقدرتها على الاستيراد والتصدير، وستقلل دوافع اللاعبين لعقد الصفقات مع روسيا وستضعف مؤسساتها المالية. بالمقابل، أبدت روسيا صموداً في وجه العقوبات وقدرة على تحويل الأموال عبر دول لا تشملها العقوبات.
البعد التاريخي: تعرض المعركة الروسية في أوكرانيا بتعابير تاريخية؛ فاستخدام متكرر للرموز والتشبيهات من فترة الحرب العالمية الثانية على جانبي المتراس، يجسد أهمية اللحظة التاريخية وإمكانيتها الكامنة لأن تصبح نقطة انعطاف في ميزان القوى العالمي. روسيا ملتزمة بالمعركة العسكرية في أوكرانيا، والتي تعتبرها معركة على نمط الحياة الروسية، وصد النفوذ الغربي واقتراب الناتو من حدودها، وعلى رغبتها في استعادة مكانتها ومكانها المركزي في نظام عالمي متعدد الأقطاب. أما الولايات المتحدة والغرب فيديران معركة صد هدفها حصر الحرب في أوكرانيا، وجباية ثمن باهظ من موسكو على اقتصادها ومكانتها العالمية، وتثبيت ردع ناجع يمنع عن روسيا توسيع القتال إلى ساحات أخرى. واشنطن على وعي بالآثار التاريخية لخطوة روسية كهذه على النظام العالمي، وكذا على ثمن فشل الغرب في المنافسة الاستراتيجية مع الصين.
المعاني
ترى روسيا المعركة في أوكرانيا كمرحلة في استراتيجية بعيدة المدى للعودة إلى مركز الساحة العالمية كقوة عظمى ومنصة لإظهار القوة العسكرية وتثبيت ردع ناجع أمام الناتو والولايات المتحدة.
ومع ذلك، قد يصبح الغزو “نصراً أشبه بالهزيمة” بالنسبة لموسكو في المدى المتوسط – البعيد، في ضوء الأثمان الباهظة التي ستضطر لدفعها في الساحة السياسية، والاقتصاد والساحة الداخلية.
تعليمات بوتين لقوات النووي الانتقال إلى وضع تأهب عالٍ في ضوء “التصريحات الهجومية للناتو”، تشهد على الضغط الذي تعيشه موسكو في ضوء فاعلية الخطوات الغربية التي تجبي أثماناً غير مسبوقة.
إن قرار خوض مفاوضات بدون شروط مسبقة بين أوكرانيا وروسيا على الحدود مع بيلاروسيا، اتخذ على خلفية عدم نجاح روسيا في حسم المعركة بسرعة، رغم موازين القوى العسكرية التي تميل في صالحها بوضوح.
ويعبر وجود المفاوضات عن إنجاز لحكومة أوكرانيا التي ما زالت صامدة في وجه الهجوم العسكري، ولكنه لا يشهد بالضرورة على فرص نجاحها. في كل الأحوال، فإن نصراً عسكرياً روسياً في ميدان المعركة لن يؤدي إلى انتصار استراتيجي بعيد المدى في ضوء المقاومة الشعبية واسعة النطاق للاحتلال الروسي، وغياب الشرعية الدولية.
تستهدف الاستراتيجية الغربية بقيادة الولايات المتحدة جباية ثمن باهظ من روسيا، يؤدي على مدى الزمن إلى تحطيم اقتصادها وجعلها دولة “منبوذة” في الساحة الدولية، وتثبيت ردع عسكري ناجع في مناطق الناتو.
يحاول الغرب الامتناع عن مواجهة عسكرية مباشرة، والتدهور إلى حرب شاملة، ولكنه يرى في حرب أوكرانيا جزءاً من المعركة الشاملة على النظام العالمي، ولهذا فلن يمتنع عن مواصلة ممارسة الضغط الشامل دون مستوى الحرب. في هذا السياق، تشكل الأزمة في أوكرانيا اختبار زعامة للرئيس بايدن، الذي اجتازه حتى الآن بنجاح.
إضافة إلى ذلك، تطلب الولايات المتحدة من حلفائها في العالم “السير على الخط” مع سياسة العقاب والشجب. إن قدرة الدول في الإبقاء على الحيادية في المعركة المتصاعدة بين الغرب وروسيا ستكون صعبة وستكون عليها أثمان أيضاً. في وضع الأمور هذا، تتصاعد إمكانية توسيع حدود المعركة وسوء التقدير.
تحاول إسرائيل في هذه المرحلة “السير بين القطارات” في ضوء التهديد الذي تطرحه روسيا على حرية عمل إسرائيل في المعركة لصد التموضع الإيراني في سوريا. ومع ذلك، سيتعين على إسرائيل في ضوء طلب ستطرحه عليها الولايات المتحدة وأوروبا، أن “تسير على الخط” مع سياسة حليفتها الاستراتيجية، وتعرض تأييداً كاملاً لواشنطن في ضوء الأثمان التي قد يجرها الأمر في المعركة ما بين الحروب وفي الساحة الإقليمية.
وثمة نتيجة فرعية أخرى لحرب أوكرانيا، وهي تأخير محتمل لتحقق الاتفاق النووي في فيينا. فالمفاوضات التي هي في مراحلها النهائية قبيل الاتفاق، ربما تتوقف بسبب عدم قدرة القوى العظمى على العمل معاً لإنهائها.
بالمقابل، سيناريو خطير لخطوة أمريكية تستهدف “تنظيف الطاولة” والتوقيع على اتفاق نووي بسرعة وبشكل يسمح بالتركيز على روسيا، سيتحدى المصلحة الأمنية الاستراتيجية لإسرائيل. في هذه الوضع، إسرائيل مطالبة بتعزيز التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، واستثمار في بناء قوة تعطيها قدرة عمل مباشرة حيال إيران في يوم الأمر، إلى جانب استمرار الاستثمار في صد التموضع الإيراني في سوريا.
تبرز الحرب في أوكرانيا مرة أخرى أهمية القوة العسكرية والحاجة إلى تثبيت تفوق عسكري في الحرب الحديثة. في حالة توقيع الاتفاق النووي، على إسرائيل الاستعداد للمعركة مع إيران، إلى جانب الحاجة إلى صد فروعها الإقليمية. والجيش الإسرائيلي مطالب بأن يطور استراتيجية تتيح له قدرة حسم التهديدات في الدائرة الأولى إلى جانب الاستثمار في بناء قوة متخصصة وتعميق العلاقات الامنية والسياسية مع العالم العربي، مما يتيح له قدرة عمل ناجعة في الدائرة الثالثة.
كما أن التوتر المتصاعد في قطاع غزة والضفة قبيل رمضان، والاستفزازات المتصاعدة من قبل حزب الله على الحدود الشمالية والمتمثلة بإدخال مسيرات إلى أراضي إسرائيل، ترفع احتمال التفجر في المنطقة.
قد تطلب الولايات المتحدة من إسرائيل الهدوء الذي يسمح لها بالتركيز على روسيا والامتناع عن خطوات تصعيدية. إسرائيل ملزمة بأخذ السياق الاستراتيجي الواسع بالحسبان، وانعدام قدرة واشنطن على تركز الاهتمام والمقدرات لساحات أخرى، وتقليص قابلية التفجر في الشمال ومع الفلسطينيين.

* كتب النص: طاقم معهد السياسة والاستراتيجية (الإسرائيلي) برئاسة اللواء احتياط عاموس جلعاد.
المصدر| معهد السياسة والاستراتيجية

موضوعات تهمك:

روسيا وإسرائيل: وساطة المحتل لنظيره؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة