أكتوبر الآخر

الساعة 259 أكتوبر 2022آخر تحديث :
أكتوبر الآخر

بقلم: عبدالله السناوي

بتقادم السنين بهتت فى الذاكرة العامة المعانى الكبرى التى حاربت من أجلها مصر لست سنوات كاملة بين حربى «الاستنزاف» و«أكتوبر».
لا يمكن تلخيص ملحمة الحرب فى بعض الرجال، أو تقبل «مسخها» فى بعض الدعايات.
تحت ظلال الهزيمة المروعة، التى جرت فى (5) يونيو (1967)، أدركت الوطنية المصرية بحس تاريخى لا يمكن التشكيك فيه إنها مقصودة بذاتها.
فى مشهد (9) و(10) يونيو رفضت الهزيمة وكلفت «جمال عبدالناصر» بمواصلة القتال.
كان ذلك مشهدا تاريخيا حقيقيا جرى الطعن فيه، كأنه «مسرحية»، لسحب شرف إعلان المقاومة فى لحظة الهزيمة عن المواطن المصرى، الذى خرجت كتله الجماهيرية إلى الشوارع ترفض تنحى «عبدالناصر».
لم تكن القضية الرجل نفسه بقدر ما كان يمثله.
أثبتت الأحداث فيما بعد أن الرهان عليه كان فى محله.
أعاد بناء القوات المسلحة من تحت الصفر، وامتلكت مصر أقوى جيش لها فى التاريخ الحديث، تجاوز حجمه المليون جندى ــ أغلبه من خريجى الجامعات المصرية.
جيش حديث يأخذ بالعلم وفنونه وقواعد الضبط الصارمة تحكمه، والفضل فى ذلك يعود ــ أساسا ــ لقائده العام بعد الهزيمة الفريق أول «محمد فوزى»: تدريبات قاسية، وبروفات جادة فى ميادين القتال أثناء حرب الاستنزاف قبل أن نذهب إلى حرب أكتوبر.
أعطت مصر أقصى ما لديها من إرادة القتال.
لم يكن التفويض الاستثنائى الذى منح لـ«عبدالناصر» شيكا على بياض، فقد خرجت مظاهرات طلابية عام (١٩٦٨) تندد بالأحكام المخففة على التقصير الفادح لقادة سلاح الطيران فى حرب يونيو وتطالب بالمشاركة السياسية.
تبدت إرادة القتال فيما طلبه الفريق «عبدالمنعم رياض» من «عبدالناصر»، عندما كلفه رئاسة أركان حرب القوات المسلحة المصرية فى أعقاب الهزيمة العسكرية ألا يقبل «الصلح»، أو استعادة سيناء دون قتال، حتى لو عادت كاملة دون شروط: «أرجو يا سيادة الرئيس ألا تقبل لأنه إذا عادت سيناء بدون قتال فإن البلد كلها سوف تنهار أخلاقيا وتسقط القيم فى هذا البلد وتنحرف النساء على نواصى الشوارع».
كان رد «عبدالناصر»: «لا تقلق فلن يعيدوا سيناء أبدا دون قتال، أو دون شروط».
تحت النيران تحدد المجرى الرئيسى لخيارات الحكم الجديدة ــ إزالة آثار العدوان وتصحيح الأسباب التى أدت إلى الهزيمة العسكرية.
لماذا يُراد ــ حتى الآن ــ تكريس الهزيمة فى الوجدان العام، رغم النصر العسكرى فى «أكتوبر 1973» منذ نحو نصف قرن؟
فى الحرب العالمية الثانية سحقت القوات الفرنسية.
احتلت عاصمتها باريس، ودخلها الزعيم النازى «أودلف هتلر» مزهوا لالتقاط الصور التذكارية عند برج إيفل.
بعد تحريرها وضعت لوحات تذكارية عند الأماكن والأبنية التى سقط بجوارها شهداء المقاومة الفرنسية.
لم يجئ تحرير فرنسا بفضل قوات الجنرال «شارل ديجول» وحدها، فقد قادت العمل العسكرى القوات الأمريكية.
لم يكن فى مصر متعاونون مع قوات الاحتلال كما حدث فى فرنسا، ولا قادت معاركها بالنيابة قوات أجنبية.
إذا ما تساءلنا اليوم عن خفوت الاعتزاز العام ببطولات أكتوبر، فإن هناك سببين رئيسيين.
الأول ــ يعود إلى ابتعاد الحدث الكبير عن ذاكرة أجيال متعاقبة لم تكن قد ولدت فى سنوات الحرب، لا عاصرت معاناة الهزيمة ولا تطلعت إلى تجاوزها أيا كانت فداحة التضحيات، لا قبعت فى الخنادق الأمامية لست سنوات كاملة لاستعادة الأرض المحتلة بقوة السلاح، ولا تجرعت مرارة تبديد ثمار النصر العسكرى.
ثم وجدت أمامها سياسات غير مقنعة فرغت الحرب من معناها وقضاياها باسم سلام أفضت نتائجه وتداعياته إلى أوضاع تقارب الهزائم الاستراتيجية.
والثانى ــ أن رواية أكتوبر بالطريقة التى عرضت بها تمازجت فيها الدعايات المفرغة من أية معانى تحررية مع نزعة دعائية تكرس الهزيمة وتلح عليها، كأننا لم نحارب ولم ننتصر، وكأن إسرائيل قوة لا تقهر والهزيمة قدر.. «أكتوبر آخر الحروب»، و«لن نحارب بالنيابة عن الفلسطينيين والعرب لآخر جندى مصرى»، كما تردد على نطاق واسع فى الخطابين الإعلامى والسياسى.
جرى تسطيح قضية الصراع العربى ــ الإسرائيلى، وقضية الأمن القومى المصرى الذى دافعت عنه قواتنا قبل أى شىء آخر.
أُهدرت التضحيات الهائلة التى بُذلت فى ميادين القتال، ونشأت طبقة جديدة وصفت فى البداية بـ«القطط السمان»، لتساند السلام مع إسرائيل.
استشعر جيل كامل وهب حياته لقضية تحرير بلاده بقوة السلاح الخديعة، فقد حارب من أجل حلم ليستيقظ على كابوس.
كان فتح «ملف عبدالناصر» فى أعقاب حرب أكتوبر مباشرة تمهيدا لسياسات تمددت من الانفتاح الاقتصادى بالطريقة التى جرت بها إلى الصلح مع إسرائيل بالتنازلات التى انطوى عليها.
لم يكن يناسب شخصا محترفا فى كفاءة وزير الخارجية «إسماعيل فهمى» أن يتغاضى لا عن «الأسلوب» ولا عن «المنهج».. ولا أن يغمض العين عن «النتائج الوخيمة» المتوقعة لما أطلق عليها مبادرة «السادات» عام (1977).. فاستقال.
رغم أن الدكتور «بطرس غالى»، الذى صعد إلى قمة جهاز الخارجية المصرية فى أعقاب استقالتى وزيرها «إسماعيل فهمى» ووزير الدولة للشئون الخارجية «محمد رياض»، كان مقتنعا بما أقدم عليه «السادات»، إلا أنه وجد نفسه عضوا فيمن كان يسميهم بـ«عصابة الخارجية»، أو «الميكانيكية» ــ نسبة إلى التعبير الإنجليزى الشهير «الميكانيزم» أو «الآلية»، الذى كان يستخدم وقتها على نطاق واسع فى أوساط المثقفين والدبلوماسيين!
لم يكن بوسع الدكتور «غالى» بخلفيته الأكاديمية أن يغض الطرف، كما جاء فى مذكراته، عن الأداء الهابط لكثير من مشاهد المفاوضات.
بتعبير «الجمسى» عن مفاوضات الكيلو (١٠١)، التى استبقت زيارة الكنيست بفترة طويلة نسبيا: «كنت أتفاوض مع وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر.. بينما النتيجة معدة سلفا بينه وبين الرئيس السادات».
أكد «كيسنجر» فى مذكراته ما قاله «الجمسى»: «لم أعد وسيطا بين مصر وإسرائيل.. بل بين السادات وإسرائيل من جهة والوفد المصرى من جهة أخرى».
أهدرت النتائج العسكرية لحرب أكتوبر بمقولتى: «٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسى».. و«٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة».
كانت النتائج وخيمة على الدور الإقليمى المصرى بالانخراط فى الصلح المنفرد مع إسرائيل والخروج من الصراع العربى ــ الإسرائيلى.
«شاهدت زيارة السادات للكنيست بالكويت.. بعد دقائق اختفت النساء. كن يبكين بالحمامات وغرف النوم».
تلخص تلك العبارة للأستاذ «أحمد بهاء الدين» شيئا من الجو العام فى العالم العربى لحظة زيارة القدس، التى قوضت عندها النتائج السياسية لبطولة السلاح فى أكتوبر.

*عبدالله السناوي كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق – القاهرة

موضوعات تهمك:

عبدالمنعم رياض شهيد بروفة حرب أكتوبر| بروفايل

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة