أعطاب القيادات الفلسطينيّة

محمود زين الدين9 ديسمبر 2018آخر تحديث :
أعطاب القيادات الفلسطينيّة

أعطاب القيادات الفلسطينيّة

  • رحلت القيادات التاريخية وصعدت قيادات جديدة تفتقد الكاريزما ولا تحفل بما تريدُهُ جماهيرُها الحركيّة أو جماهيرُ شعبها، أو بما هي مستعدّة له لتحصيل حقوقها.
  • بانتصار فكرة التفاوض وحصار فكرة المقاومة يتعمّق الشرخ بين الحركة والشعب أكثر وداخل الحركة، بين القيادات الفصائليّة والجمهور الحركيّ.
  • لا يبدو أملٍ في “تصحيح” و”تدارُك”، لأنّهما غيرُ ممكنيْن في شروطٍ تَعَطَّل فيها المشروعُ الوطنيّ الفلسطينيّ وعُلِّق على مذبح الأوهام!
  • كانت القيادة الفلسطينيّة تملك في حقبةِ مدِّ الثورة أن تفرض على القرار العربيّ سقفاً سياسيّاً أعلى ولم تفعل.

 

بقلم: عبد الإله بلقزيز

يلْحظ القارئ في تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، في الخمسين عاماً الأخيرة، فجْوتيْن لم تَهْتَدِ (الحركة تلك) إلى جسْرهما:

– فجوةٌ بين قيادات الحركة الوطنية تلك و(بين) جمهورها من المناضلين والمقاتلين والعاملين في مؤسساتها الاجتماعيّة والإعلاميّة والحركيّة (الفصائليّة)؛

– وفجوةٌ بين الحركة الوطنيّة، ككلّ، والشعب الفلسطيني: تحت الاحتلال وفي مناطق اللجوء والشتات!

وبيانُ الفجوة تلك أنه فيما يُبدي الجمهورُ المناضل للحركة الوطنيّة وجوهاً من الاستعداد للمواجهة والتضحية أكثر، ومن التمسّك الحازم بالحقوق الوطنيّة الثابتة في الوطن المغتصَب والمحْتَلّ، تُبدي القيادات تردّداً أو نكوصاً عن إجابة الميْل العامّ لقواعدها المناضلة.

بل تظهر -أحياناً- وكأنها تكبح جِماحَها فتُجبِرُها على الانتظام تحت سقف القرار السياسيّ الرسميّ.

على النحو عينِه؛ فيما يبدي الشعب الفلسطينيّ- حتى في أحلك ظروفه- الاستعداد للمزيد من التضحيات والمقاومة المستمرة للاغتصاب والاحتلال، لا تُتَرجِمُ حركتُه الوطنيّة – قيادةً وقواعد- إيقاع ذلك الاستعداد في عملها السياسيّ، حتى لا نقول إنها تقابِلُه بسياسات لا مفعول لها سوى التخذيل والتثبيط!

لا تتعلّق هذه الملاحظة بأوضاع هذه الحركة الوطنيّة في حقبة انكفاءَتها وتراجُعها وتنازلاتها، التي بدأت منذ مؤتمر مدريد (1991) و خاصةً، منذ توقيع «اتفاق أوسلو» (1993) وقيام السلطة الفلسطينيّة في مناطق الحكم الذاتيّ (1994)، بل هي تنطبق حتى على الحقبة التي شهدت على مدٍّ ثوريّ، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينيّة، بين انطلاقة الثورة (1965) وخروج قوّاتها من بيروت، بموجب «اتفاق فيليپ حبيب» (1982).

وإنْ كان حجمُ الفجوة في الماضي (قبل أوسلو) أقلّ منه اليوم (بعد أوسلو).

كما لا تتعلّق الملاحظة (إيّاها) بفصيلٍ بعينه دون آخر؛ بفصيلٍ كان ممسكاً بالمقاليد والأزِمّة، في مؤسسات الثورة والحركة الوطنيّة، مثل «حركة فتح»، مقابل فصائل أخرى معارضة، وأكثر راديكاليّة، مثل «الجبهة الشعبيّة»، و«ج.ش- القيادة العامَّة»، و«الصاعقة»، و«الجبهة الديمقراطيّة»،… وصولاً إلى «حماس»؛ وإنّما يتعلق الأمرُ فيها (الملاحظة) بالفصائل كافّة… في مراحل تطوّرها كافّة.

وما من شكٍّ في أنّ الأوضاع استفحلت، في العقديْن الأخيرين، بما لا قياس معه بين حاضر الحركة، وفصائلها، وماضيها. وليس مردّ ذلك الاستفحال إلى الشروط الجديدة، النابذة، التي تعمل في ظلّها القوى الفلسطينيّة وجمهورُها الحركيّ (شروط أوسلو وقيام سلطة لا سلطة لها على أراضيها!).

وإنما مردّها – أيضاً- إلى رحيل القيادات التاريخيّة للحركة وفصائلها (ياسر عرفات، جورج حبش، أبو جهاد، أبو إياد، الشيخ أحمد ياسين…)، وصعود قيادات جديدة تفتقر إلى الرأسمال الكاريزميّ، ولا تبدي كبيرَ احتفالٍ بما تريدُهُ جماهيرُها الحركيّة أو جماهيرُ شعبها، أو بما هي مستعدّة له لتحصيل حقوقها.

واليوم؛ مع انتصار فكرة التفاوض وقواها، وحصار فكرة المقاومة ومَن تبقّى من قواها، يتعمّق الشرخ بين الحركة والشعب أكثر وداخل الحركة، بين القيادات الفصائليّة والجمهور الحركيّ.

ولا يبدو في الأفق من أملٍ في التصحيح والتدارُك، لأنّ هذيْن (التصحيح والتدارُك) غيرُ ممكنيْن في شروطٍ تَعَطَّل فيها المشروعُ الوطنيّ الفلسطينيّ وعُلِّق على مذبح الأوهام!

كان على القرار الفلسطينيّ، دائماً، أن يتحرّك تحت سقف القرار العربيّ؛ ليحظى بالاعتراف الرسميّ العربيّ. وكان عليه، دائماً، أن يتلقّى نتائج التناقضات العربيّة-العربيّة.

فيجاهد لئلاّ تؤثّر سلباً فيه، أو تدفعه إلى التمحور إلى جانب هذا الفريق أو ذاك، على نحوٍ يغامِر فيه بتحويل قضيّة فلسطين من موضوع إجماعٍ (عربيّ) إلى موضوع انقسامِ يخسر فيه محيطه.

وكان عليه أن يعيش من الدعم الماديّ العربيّ الرسميّ، وأن يكون عرضةً لإملاءات هذا وذاك ممّن يدعمونه. ثم كان عليه، دائماً، أن يحسب حساب التوازنات الإقليميّة والدوليّة، فلا يُقْدِم على سياساتٍ غيرِ قابلة للتصريف دوليّاً، (وخاصةً بعد اختفاء الراعي السوفييتيّ من خريطة القوّة)…إلخ. هذا كلّه صحيح، ولكنّه وجْهٌ من الصورة وليس الصورة كلَّها.

الوجه الثاني من الصورة أنّ القيادة الفلسطينيّة كانت تملك – في حقبةِ مدِّ الثورة- أن تفرض على القرار العربيّ سقفاً سياسيّاً أعلى ولم تفعل. كما أنّ قيادة الثورة أنفقت زمناً وجَهداً مجّانياً في إدارة تناقضات البلدان التي أقامت فيها مؤسّساتها (الأردن، لبنان)؛ ولم يخدم ذلك قضيّة فلسطين في شيء.

ثم إنها استغرقت في تناقضاتها الداخليّة إلى حدّ الانجرار إلى صدامات مسلّحة، مزّقت الساحة الفلسطينيّة (في مخيمات الشمال اللبنانيّ والبقاع والهرمِل في صيف العام 1983، وفي غزّة مع انقلاب «حماس» والانقسام)؛ ولم يخدم ذلك قضيّة فلسطين في شيء.

وأخيراً، حين تُجوهِلت قضيّة فلسطين في السياسة العربيّة، أعرضت عن مطالب الشعب، وتركتْه وحيداً يواجه الاحتلال بالحجارة والسكاكين والطائرات الهوائية، متمسّكةً بالتفاوض (مع مَن؟!). ومتمسّكة بالسلطة: التي لا سلطةَ لها!

* د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي

المصدر: الخليج – الشارقة

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة