أبناء المنفى

الساعة 252 نوفمبر 2022آخر تحديث :
أبناء المنفى

أكثر من مليون طفل سوري ولد في المنفى، لا يعرفون من الوطن سوى اسمه، يتعرفون عليه من حكايات الآباء والأمهات.
أبناء هذا الجيل عدِم مكونات تنشئته الثقافية، وفاقد لأدوات صياغة هويته الوطنية وما إن يتكون إدراكهم حتى يبادروا بالسؤال عن سوريا
الجيل الذي لم يعرف معنى الوطن والأرض، بأي ذاكرة سيعود سوى تلك الذاكرة المعبأة بحكايات الدمار والحرب والقهر والجوع والحرمان.
بين صفحات المعاناة أزمة الجيل البائس الذي ولد في المنفى، في الخيام، حيث الحياة العالقة، بين أرض لفظتهم، وأرض أخرى تحتمل وجودهم على مضض.
يعيش أبناء المنفى في مناخ خطر يتعلق بهويتهم فهم مطالبون بالانخراط في المجتمع الغربي وفق متطلبات الذوبان التي تقبلها مجتمعات أوروبية مسكونة بهواجس أسلمة أوروبا.
* * *

بقلم: إحسان الفقيه
من شأن الأزمات المتتابعة أن كلا منها تُنسي الأخرى أو تُغيبها أو تهمشها، وبين الأزمات تتساقط قضايا فرعية من قائمة الاهتمامات، لا يُلقى لها بال، ولا تحظى بتسليط الضوء عليها.
الأزمة السورية ذات الألم المزمن في جسد الأمة، طال أمدها، وتكاثفت شرايينها المشدوخة، وتعددت إفرازاتها المأساوية، ومن بين هذه الصفحات التي دثرتها المعاناة وضاعت في تيه الأزمات، أزمة ذلك الجيل البائس الذي ولد في المنفى، في الخيام، حيث الحياة العالقة، بين أرض لفظتهم، وأرض أخرى تحتمل وجودهم على مضض.
أكثر من مليون طفل سوري ولد في المنفى، لا يعرفون من الوطن سوى اسمه، يتعرفون عليه من حكايات الآباء والأمهات، أتساءل عن هذا الجيل:
كيف يشعر بالانتماء إلى أرض لم يرها، ولم تطأها أقدامه، لم يأكل من أرضه، ولم يشرب من مائه، بل ورث ذكريات حرب مؤلمة تناقلها الآباء والأجداد في المخيمات، تفوح من أحاديثهم رائحة الدماء والدمار وفراق الأحبة تحت الأطلال وركام الخراب، كيف سيكون شعوره إذا عاد يوما إلى هذا الوطن؟!
وقد جرى المألوف بأن الذي عاش حياته كلها أو معظمها في بلاد الغرب، يعود إلى وطنه غالبا فاقد الانتماء، بل ربما يعود أدراجه ناقما على ذلك البلد الذي لا يحترم المواطن، وتنهب خيراته ثلة من المتنفذين، وتسير سفينته بلا خريطة بلا هوية، فكيف بذلك الجيل الذي يحيا في المعاناة، وهو يعيش على أرض يشعر فيها بأنه ضيف غريب على أحسن تقدير، وبأنه منبوذ كما هو الواقع.
ويُنظر إليه على أنه يزاحم أهل ذلك البلد في أقواتهم ومقدراتهم، وتقتات على مآسيه في المخيمات وسائل إعلام ربحية يهمها السبق الصحافي أكثر من نقل الحقيقة، ويتاجر بمعاناته تجار الأزمات والكوارث، تصور الطفل مع حفنة أرز أو كسرة خبز منسوبة لباذلها كدعاية رخيصة.
هذا الجيل عدِم مكونات تنشئته الثقافية، وفاقد لأدوات صياغة هويته الوطنية، أبناء هذا الجيل ما إن يتكون إدراكهم حتى يبادروا بالسؤال عن سوريا، أين تقع، ولماذا يسكنون في هذا المكان الذي لا ينتمون إليه؟
تلك التساؤلات التي لا ترحم الآباء والأمهات الذين عاينوا الدمار وويلات الحرب، يضطرون إلى اختزال القضية أمام عقلية الطفل، أو ربما اكتفوا بإطلاق أمنية بائسة، أنهم هنا لفترة ثم يعودون إلى الوطن لينعموا بخيراته وبحقهم في حياة كريمة، يُعلّلونهم ويُسكنونهم ببضع كلمات، كتلك المرأة في عهد الفاروق التي كانت تضع الحجارة في القِدر تعلل بها الأطفال الجياع ليناموا، غير أن أبناء المنفى ليس لهم عمر.
الذين خرجوا من سوريا إلى بلاد المنفى محملون بالحنين إلى الوطن الذي هو شعور فطري جبلّي لكل من نبت ونشأ في أرض لها جغرافيتها وتاريخها وعاداتها وثقافتها وخيراتها، وبهذه الذاكرة يتوقون إلى تحقيق حلم العودة في واقع أفضل، لكن هذا الجيل الذي لم يعرف معنى الوطن والأرض، بأي ذاكرة سيعود سوى تلك الذاكرة المعبأة بحكايات الدمار والحرب والقهر والجوع والحرمان.
أتخيل مآلات هذا الجيل البائس الذي لا يحصل معظم أبنائه على حق التعليم، بل ينخرطون في العمل المبكر في المنفى لمساعدة ذويهم، كيف سيتشكل وعيهم، كيف ستنشأ ثقافتهم ومعارفهم، بل كيف ستكون ملامح تكوينهم النفسي والروحي.
ولئن كان هذا هو حال ذلك الجيل الذي يقضي سنوات المنفى في بلاد عربية، فكيف الحال بمن يعيشون مع ذويهم في أوروبا لأسباب سياسية أو إنسانية. ربما يقول البعض إنهم أفضل حالا لأنهم يعيشون في بلاد مزدهرة، وأكثر اكتراثا لحقوق الإنسان كما يقال.
لكن في واقع الأمر، هؤلاء يعيشون في مناخ خطر يتعلق بهويتهم. هؤلاء مطالبون بالانخراط في المجتمع الغربي وفق متطلبات الذوبان التي تقبلها تلك المجتمعات الأوروبية التي هي في الأساس لا تهضم بسهولة فكرة انخراط المغتربين.
وخاصة وهم يعيشون هواجس أسلمة أوروبا كخطر يتهددهم عن طريق كثرة النسل للجاليات والمغتربين المسلمين، يدعم من ذلك تكوينهم فكرة سطحية عن الإسلام من خلال أجهزتهم الإعلامية، التي تخلط الحابل بالنابل تجاه ما يحدث في الأمة الإسلامية.
فأبناء هذا الجيل يواجهون خطر العبث الهوياتي، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار تنامي هيمنة اليمين الأوروبي، الذي يفرض على هؤلاء المغتربين واللاجئين قيودا من أجل الانخراط في المجتمعات الغربية بما يحفظ نظامها العلماني.
واهمٌ من يظن أن اللاجئين السوريين في أوروبا بمأمن، مع الرفض المجتمعي المتنامي للمسلمين العرب، الذي تعبر عنه ظاهرة الإسلاموفوبيا، وهو أمر يزيد من توقعات مستقبلية للضغوط النفسية والفكرية والثقافية على أبناء هذا الجيل أسوة بذويهم، التي إزاءها يضطر البعض للتماهي مع الهوية الثقافية الغربية للحد من تلك الضغوط.
لا أملك حاليا تصورا واضحا لمواجهة أزمة أبناء المنفى، الذي لا ندري شيئا عن المدى الزمني لإقامتهم في هذا الشتات.
لكن على الأقل ينبغي على الناشطين والمهتمين بهذا الشأن، تعزيز دور الأسرة في تربية هذا الجيل على الثوابت الدينية والمجتمعية، والهوية الثقافية، والاهتمام بالتعليم المحلي لينال الطفل قدرا من الأدوات التي ينطلق بها تجاه الثقافة والمعرفة، وربط هذا الجيل بتفاصيل الحياة داخل أرض المنشأ وتقاليدها وأعرافها الأصيلة، عن طريق الأعمال المرئية والمسموعة والمروية.
وقطعا الأجيال التي ولدت في المنفى لا تقتصر على ملف الأزمة السورية وحدها، لكنها المثال الأوضح والأظهر في الأزمة، أردت أن أطرق هذه القضية ربما يتم تداولها وتلقى اهتماما من ذوي الشأن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

*إحسان الفقيه كاتبة أردنية

المصدر: القدس العربي

موضوعات تهمك:

تواتر القصف الإسرائيلي لضواحي دمشق

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة