الرسالة القبرصية والصورة النمطية للإسلام

محمود زين الدين3 سبتمبر 2022آخر تحديث :
قبرص

الرسالة القبرصية تضمنت الدفاع عن حقوق الأسرى باعتبارهم بشراً، سواء كانوا مسلمين أو يهوداً أو مسيحيين
احتوت الرسالة القبرصية عدداً من المعاني التي تذكّر باعتماد الإسلام مبادئ العدل والحوار والوسطية ومكارم الأخلاق والمساواة بين الناس من جميع الديانات.
في كلّ حوار لا بدّ من الإحاطة بدين الآخر، فضلاً عن الإصغاء إليه والاستماع إلى رأيه استناداً لمصادره، وليس من تصوّرات روتينية لدينا، وبعضها لا علاقة له بالدين الآخر.
خاطب ابن تيمية ملك قبرص «سرجواس» لإطلاق سراح الأسرى ومعاملتهم معاملة حسنة وهؤلاء تمّ أسرهم من سواحل بلاد الإسلام، وفيهم يهود ونصارى، ومسلمون.
من دلالات االرسالة القبرصية تواصل وتفاعل وتداخل القيم الدينية للديانات المختلفة خصوصاً ذات الأبعاد الإنسانية بلغة جامعة ومعتدلة ووسطيّة يمكن استخدامها في الحوار.
* * *

بقلم: د. عبدالحسين شعبان
وجّه أبو العباس أحمد بن تيمية، رسالة إلى ملك قبرص «سرجواس» خاطبه فيها بإطلاق سراح الأسرى ومعاملتهم معاملة حسنة، علماً بأن هؤلاء الأسرى تمّ أسرهم من سواحل بلاد الإسلام، وفيهم يهود ونصارى، إضافة إلى المسلمين.
واحتوت الرسالة عدداً من المعاني التي تذكّر باعتماد الإسلام مبادئ العدل والحوار والوسطية ومكارم الأخلاق والمساواة بين الناس من جميع الديانات، وبالطبع فإن قراءة هذه المعاني برؤية معاصرة تعني الإقرار بحق الاختلاف والاعتراف بالآخر وقبول التنوّع والتعدّدية والاحتكام إلى القواعد الإنسانية المشتركة التي تجمع البشر، بغضّ النظر عن اختلافاتهم مع احترام خصوصياتهم وهوياتهم.
مضى على الرسالة أكثر من سبعة قرون، حيث تمّ توجيهها في عام 731 للهجرة. وبغضّ النظر عن الرسالة وجِهة مُرسلها، فإن ما حملته من أفكار وقواعد للعلاقات بين الدول، فضلاً عن التعامل الإنساني، أمر يحتاج إلى أن نتوقف عنده ونستعيده، بمعنى أن نستذكره ونستحضره، فالتاريخ مضى ولا يمكن إعادته، ولكنّنا يمكن الاستفادة من دروسه وعبره، خصوصاً في ظل سيادة التعصب ووليده التطرف ونتاجهما العنف الذي يفضي إلى الإرهاب إذا ما ضرب عشوائياً، وكان عابراً للحدود، بإضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة، والدولة والمجتمع الدولي بنفسيهما.
ولعلّ ما تشهده مجتمعاتنا من غلوّ وغلظة وانغلاق وتعصّب وتطرّف وعنف، سواء كان عنف الخارج ضدّ مجتمعاتنا، أو عنف الداخل، حيث تشظّت العديد من المجتمعات العربية والإسلامية بسبب الانقسامات الدينية والطائفية، فضلاً عن تعاظم دور المجموعات الإرهابية، سواء باسم «القاعدة» أو «داعش» وأخواتهما، يجعل هذه الاستعادة ضرورية للحاضر والمستقبل، فكلّما ضاقت مساحة التعايش والتنكّر للحق في الاختلاف، كلّما ارتفعت حدّة التعصّب، دينياً أو مذهبياً، وهو ما استثمرته القوى الإرهابية ضد كلّ مختلف، فكلّ غريب مريب، بالنسبة إليها.
هذه هي الصورة النمطية التي أخذت تتكرّس في أذهان العالم، بما فيه جانب بعض المسلمين في أوروبا، بالاستناد إلى نصوص دينية تاريخية وبقراءة ماضوية لا علاقة لها بجوهر الدين، ومقاصد الشريعة الإسلامية، بحيث أصبحت ممارسات بعض القوى الإرهابية هي الأغلب الشائع اليوم إزاء الإسلام والمسلمين في العالم، وهي بالطبع ليست صورة الإسلام، بقدر ما هي صورة الجماعات الإرهابية.
وزاد الأمر بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 والتي شهدتها الولايات المتحدة، ثم العديد من بلدان أوروبا والعالم، إضافة إلى ما يشهده العالم العربي والإسلامي من أفعال وتصرّفات وسلوكات لا علاقة لها بالدين وتعاليمه وقيمه الإنسانية النبيلة.
وما حدث للمسيحيين في بلدان الشرق، خاصة في سوريا والعراق، دليل على ذلك، فضلاً عما تعرّض له المسيحيون من عمليات تهميش وإقصاء لإجبارهم على الهجرة، وهم سكّان البلاد الأصليون، وساهموا بفاعلية وحيوية في بناء أوطانهم ورفاهها وازدهارها.
ولم يقتصر الأمر على المسيحيين فحسب، فقد شهدت المنطقة موجات من التطهير والتهميش والانتقاص من مبادئ المواطنة المتكافئة والمتساوية، كانت توّجت في العقدين الأخيرين بارتفاع موجة العنف والإرهاب، والتي شملت الإيزديين بعد احتلال «داعش» للموصل.
لقد خسرت البلاد العربية طاقات وكفاءات وخبرات واختصاصات كبيرة ومهمّة حين تم إجلاء اليهود عن بلداننا، بما أثّر في النسيج المجتمعي، وهو ما يتمّ تكراره اليوم بمحاولة إجبار المسيحيين على الهجرة، الأمر الذي يمكن أن يشمل المجموعات الثقافية الأخرى، بحيث يصبح كلّ آخر مختلفاً، والمختلف سيكون خصماً أو عدواً، وهكذا تتعزّز النظريات الضيّقة والانعزالية، تلك التي تسير عكس حركة التاريخ الذي يقرّ اليوم ويعترف، بالتنوّع والتعدّدية ويحترم الآخر ويقرّ بحق الاختلاف.
وبالعودة إلى الرسالة القبرصية، فإنها تضمنت الدفاع عن حقوق الأسرى باعتبارهم بشراً، سواء كانوا مسلمين أو يهوداً أو مسيحيين، بالدعوة إلى الحوار، لاسيّما بين أتباع الأديان، وفي كلّ حوار لا بدّ من الإحاطة بدين الآخر، فضلاً عن الإصغاء إليه والاستماع إلى رأيه استناداً إلى مصادره، وليس من خلال التصوّرات التي بنيناها وشكّلت تصوّرات روتينية لدينا، وبعضها لا علاقة له بالدين الآخر.
والدلالة الأخرى للرسالة هي تواصل وتفاعل وتداخل القيم الدينية للديانات المختلفة، خصوصاً ذات الأبعاد الإنسانية، بلغة جامعة ومعتدلة ووسطيّة يمكن استخدامها في الحوار.
ولهذه المسألة بعدها الراهن، أي ينبغي إزالة كل ما يتعلّق باعتبار المسيحيين، أو غيرهم من أتباع الأديان الأخرى، من «أهل الذمّة»، في إطار الانفتاح والمساواة والشراكة، وهي أساس المواطنة المعاصرة.

* د. عبدالحسين شعبان أكاديمي ومفكر عراقي، نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت.

المصدر: الخليج – الدوحة

موضوعات تهمك:

غورباتشيف والعرب: رياح التغيير لم تصل!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة