الحرية والأيديولوجيا

محمود زين الدين28 ديسمبر 2021آخر تحديث :
الحرية

لا نعني بالأيديولوجيا، هنا، معناها الاجتماعي بما هي تعبير عن مصلحة وهذا معنى إيجابي لها في كل حال.

الحرية حالة وجودية لذات مفردة مستقلة عن إكراهات المحيط الخارجي، أو حالة باطنية تشعر بها ذات تعي نفسها.

الحرية فعل واع فلا حرية بلا وعي وذات واعية حرة واقتران الحرية بالوعي الذاتي مأتاه اقترانها بالإرادة فالإرادة شرط وجود للحرية.

تحول الأيديولوجيا دون الوعي الصحيح بالأشياء وتضع قناعاً عليه فتمنعه من تمثل موضوعه التمثل المطابق أي تزيف الوعي وتمثل عائقاً أمام اكتسابه موضوعيته.

الأيديولوجيا هنا نقيض لوعي صحيح مطابق ومتحرر من كل عائق وهذا معناها السلبي الذي يناقض معنى الحرية بالمجتمعات الغربية التي تسلم قوانين أنظمتها السياسية بها.

* * *

بقلم: عبدالإله بلقزيز

الحرية فعل واع بالضرورة. لا حرية من غير وعي بها، وبالذات بما هي ذات واعية حرة. واقتران الحرية بالوعي الذاتي مأتاه من اقترانها بالإرادة؛ إذ الإرادة شرط وجود للحرية، وما من امرئ يملك حريته إن لم يملك إرادته؛ لأن حريته ليست أكثر من التعبير عن إرادته من غير قيد عليها يلجمها.
لكن الإرادة عينها متوقفة الوجود على الوعي والوعي الذاتي. نحن لا نريد إلا ما نعي أنه من حاجاتنا ومطلوباتنا، وما نعي أن ذاتنا قادرة على تحقيقه أو بلوغه. ما لا يقع في دائرة «الموعى» به، لا يقع في حيز الإرادة ولا يكون المرء حراً في طلبه. الإرادة إذن مسبوقة بالاختيار الحر ومتساوقة معه في آن، وهما معاً مشروطان بالوعي؛ وعي العالم الخارجي، ووعي الذات.
تدخل الحرية الوعي الإرادة في علاقة تلازم، إذن، بحيث يمتنع التفكير في الواحد من حدودها بمعزل عن الأخرى. وبمقدار ما تفرض هذه العلاقة من التلازم نفسها في الحرية من وجهة نظر فلسفية ميتافيزيقية.
أي من حيث إن الحرية حالة وجودية لذات مفردة مستقلة عن إكراهات المحيط الخارجي، أو حالة باطنية تشعر بها ذات تعي نفسها، كذلك تفرض نفسها في الحرية من حيث هي علاقة سياسية أو قل حالة متولدة من أحكام مجال سياسي يتمتع فيه المواطنون بها، من حيث هي حق من حقوقهم المدنية والسياسية. حتى على الصعيد هذا، لا تدرك الحرية إلا بوصفها نتيجة وعي بها ومحصلة إرادة، أكان الوعي والإرادة ذينك فرديين أو جمعيين.
فأما الفردي فيهما (الوعي والإرادة) فمبناه على أن المواطن الحق المتمتع بحقوقه بما فيها الحرية هو المواطن الواعي حقوقه، المدافع عنها والمعبر عن إرادته الحرة. وهو إذا لم يع الحرية إذن ولم يفصح عن إرادته فيها، لا يشعر بها، وإن أقرتها القوانين.
وأما الجمعي فيهما فمبناه على أن الحرية السياسية التي تسلم بها الدولة، كحق من حقوق مواطنيها، مدركة (موعى بها) كحاجة حيوية إلى بناء اجتماع سياسي مفتوح يحكمه القانون، ويحميه الاستقرار والسلم المدنيان اللذان يتوطدان بالحرية. والدولة إذ تسلم بهذه الحاجة التي تعيها، لا تفعل سوى أنها تعبّر بقوانينها الكافلة للحريات عن إرادتها التي هي ليست أكثر من الإرادة العامة.
يستفاد من هذا أنه ما من حرية يمكن أن تكون مع وجود تأثير ما في وعي المواطن وإرادته، فمثل ذلك التأثير ينال من استقلاله أو قل من استقلال خياراته وإرادته. ومن البيّن أن هذه حالة أي مواطن في بلدان الغرب، اليوم، وفي بلدان العالم أجمع.
فما من أحد يتمتع بحرية ناجزة: واعية ومسنودة إلى إرادة حرة، حتى في البلدان التي تُقر قوانينها بالحريات الفردية والعامة. وليس مرد هذه الحال من الحرية المنقوصة أو المسروقة، إلى كونها ملجومة بسقف القانون!
فذلك من صميم طبيعة الحرية داخل المجتمع السياسي، وإنما مرده إلى منطق السيطرة السياسية للنخب المالكة للسلطة والثروة، وما تقضي به من أشكال مختلفة من قولبة الوعي الجمعي وتصنيع الرأي العام في المجتمع.
إن مفهوم الرأي العام نفسه يشير إلى تلك اللعبة الماكرة من عملية الإخضاع الأيديولوجي الذي تقوم به الأجهزة الأيديولوجية المهيمنة، إخضاع آراء الناس ومواقفهم للأيديولوجيا المهيمنة قصد شرعنتها وتحويلها إلى أيديولوجيا سائدة يعبر عنها «الرأي العام» ويعيد إنتاجها.
تحول الأيديولوجيا دون الوعي الصحيح للأشياء، وتضع قناعاً عليه فتمنعه من أن يتمثل موضوعه التمثل المطابق. لِنقل إنها تزيف الوعي وتمثل عائقاً أمام اكتسابه موضوعيته.
في مثل هذه الحال من تيه الوعي يتعسر الحديث عن حرية وعن إرادة واعية، فما قد يفعله الواقع تحت تأثير الوعي الأيديولوجي ويعتقد أنه من صميم حريته، ليس من أفعال الحرية في شيء؛ لأنه لا يأتيه بمحض إرادته الواعية.
ولا يغير من ذلك أنه يعتقد، جازماً، أنه يأتيه بوعي وإرادة، ذلك أنه من وظائف الأيديولوجيا أن ترسخ اليقين لدى مسلوب الإرادة بأنه حر، وأن توطن لديه اليقين بأن ما يعيه وما يراه صحيح وموضوعي.
نحن لا نعني بالأيديولوجيا، هنا، معناها الاجتماعي بما هي تعبير عن مصلحة (وهذا معنى إيجابي لها في كل حال)؛ بل نعني معناها كنقيض للوعي الصحيح المطابق المتحرر من كل عائق، وهذا هو معناها السلبي، وهو عينه الذي ينال من معنى الحرية في المجتمعات التي تسلم قوانين أنظمتها السياسية بها: المجتمعات الغربية.

* د. عبد الإله بلقزيز كاتب وأكاديمي مغربي
المصدر| الخليج

موضوعات تهمك:

الخطر الداهم بيننا

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة