أوروبا الشرقية.. المحور الجديد

محمود زين الدين1 ديسمبر 2022آخر تحديث :
أوروبا

أوروبا الشرقية هي المنافس الجديد الأوحد للمحور الفرنسي الألماني في القارة، ومن شأنها أن تقدم مشروعاً بديلا لمنظومة بروكسل.
مركز ثقل أوروبا تحول من غربها إلى شرقها، وتراجع المحور الألماني الفرنسي الذي كان القوةَ الدافعةَ لتَشكُّل السوق المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي!
محور إقليمي صاعد يشكل خُمُسَ القارة ويبلغ سكانه 50 مليون نسمة، وتتجاوز نسبة نموه الاقتصادي 5 بالمائة، وفيه دول تضاهي بلدان أوروبا الغربية.
شرق أوروبا اختارت الانضمام للاتحاد الأوروبي بعد توسيعه بنهاية الحرب الباردة لكن هذا الانضمام كان موجَّهاً بأهداف أمنية استراتيجية وانخرطت في حلف الناتو.
* * *
كتبت صحيفة «دي فيلت» الألمانية (24 نوفمبر 2022) أن مركز ثقل أوروبا تحول من غربها إلى شرقها، بحيث بتنا نشهد حالياً تراجع المحور الألماني الفرنسي الذي كان من قَبل القوةَ الدافعةَ لتَشكُّل السوق المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي وانتقال التأثير إلى شرق ووسط أوروبا، أي أساساً البلدان التي كانت تابعة الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة.
كانت هذه المنطقة تسمى في الأدبيات الألمانية «أوروبا الوسطى» أي الحاجز الفاصل بين ألمانيا وروسيا والنمسا، وهي اليوم في صدارة المنظومة الأوروبية، تتقدمها بولندا ورومانيا وسلوفاكيا ودول البلطيق.
الأمر هنا يتعلق بمحور إقليمي صاعد يشكل خُمُسَ القارة ويصل عدد سكانه 50 مليون نسمة، وتزيد نسبة النمو الاقتصادي فيه على 5 بالمائة، من بينه دول أصبحت تضاهي بلدان أوروبا الغربية (يتجاوز نصيبُ الفرد من الدخل القومي في تشيكيا مثيلَه في إسبانيا).
وقد اعتبر عالم الاقتصاد البولندي «مارسين كدزيرسكي» أن أوروبا الشرقية هي اليوم المنافس الجديد الأوحد للمحور الفرنسي الألماني في القارة، ومن شأنها أن تقدم مشروعاً بديلا لمنظومة بروكسل.
ولئن كانت دول أوروبا الشرقية قد انحازت إجمالا لأوكرانيا في الحرب الأخيرة، وقدّمت لها مختلفَ أوجه الدعم العسكري، فإنها في غالبيتها ناهضت مشروع الاندماج الأوروبي في صيغته الحالية التي تتمحور حول المقاربة الاقتصادية المالية مدخلاً للوحدة الشاملة للقارة.
والواقع أن هذه البلدان وإن كانت تنتمي جغرافياً واجتماعياً لأوروبا، فإن لها خصوصياتها التاريخية والحضارية التي تجعل منها إقليماً مميزاً داخل القارة.
ليس لهذه البلدان في الغالب تجربة طويلة في الدولة الوطنية، وقد كانت في مجملها مندمجة في الإمبراطوريات الثلاث الكبرى التي تقاسمت المنطقةَ، أي الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية.
ومن المعروف أن هذه المنطقة توجد في قلب التداخل الكثيف بين شرق المتوسط والعالم السلافي والفضاء الأرثوذكسي، حيث تشكل دولُ البلقان القنطرةَ الرابطة بين جنوب أوروبا والمجال الشرق أوسطي في عمقه الإسلامي الكثيف.
ومن ثم فإن شرق أوروبا لا ينفصل موضوعياً عن طرفي أوروبا المؤثرين في روسيا وتركيا. ومع أن جلَّ بلدان المنطقة اختارت الانضمام للاتحاد الأوروبي بعد قرار توسيعه إثر نهاية الحرب الباردة، فإن هذا الانضمام كان موجَّهاً أساساً بأهداف أمنية استراتيجية، مما يفسر انخراط عموم هذه البلدان في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وفي هذا الباب قيل الكثير عن أوروبا الأطلسية مقابل مشروع الوحدة الدفاعية الأوربية الذي اقترحته فرنسا ورفضته جلُّ قيادات دول أوروبا الشرقية.
كما أن دول المنطقة وإن اختارت كلُّها مسارَ الديمقراطية الانتخابية التعددية، فإنها طورت أنظمةً سياسيةً خاصةً بها، تتسم أساساً بالنزعة القومية المحافظة وأحيانا بالدور القوي للكنيسة في المؤسسات العمومية، وهو النهج الذي أطلق عليه الزعيم الهنغاري فيكتور أوربان مقولةَ «الديمقراطية غير الليبرالية».
لقد ذهب أوربان إلى القول بأن منطقة أوروبا الشرقية والوسطى ليست مجرد ظاهرة جيوسياسية داخل البناء الأوروبي العام، بل هي «حقيقة سياسية واقتصادية وثقافية كاملة».
ومن هنا ندرك المحاولات المتزايدة لتأسيس منظومة مندمجة خاصة ببلدان المنطقة، من أبرزها تشكل «مجموعة فيزغراد» التي تضم نواتُها الأولى هنغاريا وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا، وهي بلدانٌ تجْمعها عضويةُ الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
ومن المتوقع أن تتوسع المجموعة لتضم سائر بلدان الإقليم، بما يبرز في مبادرتها المعروفة بـ«مبادرة البحار الثلاث» التي تجمع اثنتي عشرة دولة مطلَّةً على البلطيق والبحر الأسود والبحر الأدرياتي (لتوانيا، إستوانيا، لتونيا، النمسا، سلوفانيا، كرواتيا، رومانيا، وبلغاريا).
ومن الواضح أن مجموعة فيزغارد تشكل داخل الاتحاد الأوروبي جناحاً مستقلاً بأفكاره ومواقفه، بما برز بقوة في رفضها لسياسات الهجرة واللجوء التي أقرها الاتحاد الأوروبي في عامي 2017 و2018 وإن كانت هذه البلدان استقبلت الغالبيةَ الكبرى من السبعة ملايين لاجئ أوكراني بعد اندلاع الحرب الأخيرة.
وإذا كانت المجموعة العربية قد تبنّت في السابق نهج الشراكة مع دول جنوب أوروبا ضمن المبادرة المتوسطية، فهل حان الوقت للانفتاح على الإقليم الأوروبي الشرقي الذي هو الامتداد الاستراتيجي والتاريخي الطبيعي للشرق الأوسط بمفهومه الواسع، بما يقتضي عملياً الإسهام الفاعل في تشكل منظومة شرق المتوسط والتأثير الإيجابي في المعادلة الأوروآسيوية التي هي الرهان الأساسي للمعادلة الجيوسياسية العالمية في المستقبل.

*د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني

المصدر: الاتحاد – أبو ظبي

موضوعات تهمك:

أوضاع ملتهبة وشتاء جليدي

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة